ع الباب أنا ع الباب !
وقد وقف لطفى لبيب طويلا على الباب يتحايل على الدنيا ويضحك لها ويسترضيها ويسامحها ويغنى لها ، كان يجلس فى بيته وأبناء جيله يملأون الشاشات ويحصدون الفرص والشهرة والأموال وهو ينتظرها على رصيف الأمل واثقا فى موهبته مهما تأخرت الفرصة ومهما تساقط شعره .
بين السرايات
جميل لطفى لبيب ،ويكفى أن يطل عليك فى مشهد أوأثنين ليبقى دائما فى الذاكرة ومختلف حتى فى مشوار حياته الفنى ، فهو خريج أكاديمية الفنون 1970 ، لكنه لم يظهر فى الثمانينات أو التسعينات مثلا ،لكنه ظهر وملأ الشاشة الكبيرة والصغيرة فى مطلع الألفية ، فقد حالت فترة التجنيد الطويلة التى وصلت ست سنوات متواصلة دون دخوله عالم التمثيل بالشكل المناسب أو غير المناسب حتى ، لكنه ظل فخوراً بدوره فى حرب أكتوبر فقد كان أحد جنود الكتيبة 36 أول كتيبة تعبر قناة السويس فى 1973 ، وهى التجربة التى كتبها فى عمل أدبى حمل نفس الاسم .
بعد انتهاء مرحلة التجنيد كانت التجربة أكثر قسوة! ،فخريطة الوسط الفنى تبدلت عشرات المرات ، وأبناء الجيل “محمد صبحى ونبيل الحلفاوى وشعبان حسين وغيرهم ” شقوا الطريق وأخذ كل واحد منهم دوره فى الحياة ،بينما مازال هو غير معروف سوى لجمهور قليل للغاية شاهده فى مسرحيات القطاع العام التى لا يشاهدها سوى النخبة من المثقفين! .
سقط شعر رأسه الذى كان مسبسبا وناعما كالحرير فى صورة وحيدة بالأبيض والأسود تداولتها مواقع التواصل الاجتماعى على سبيل الفكاهة والغرائب الفنية التى جعلت الجمهور يلتقى بهذه الموهبة فى مرحلة الصلع ! ، يسخر لطفى نفسه من هذه الوقائع الغريبة فى حياته ويحكى أنه فى تلك الأيام كان يذهب إلى صديقه الشاعر إبراهيم داود فى منطقة بين السريات حاملاً معه الصفحات الفنية التى تعلن عن المسلسلات والأفلام الجديدة ، ويفرد الصفحات أمام إبراهيم ويقول بنبرة حزن مبالغ فيها : شايف يا إبراهيم المسلسلات والأفلام دى كلها ؟! ..أنا مش فى واحد منها !!.
ويضحكان إن تذكر أحدهما تلك الوقائع فى أحدى جلسات الزمن الجميل بدار ميريت وفى حضور صاحبها ونوّارتها محمد هاشم.
اختار لطفى لبيب الأصعب وراهن على موهبته ، وقرر أن يقبل كل الأدوار ليس بحثا عن الشهرة أو عن المال ، ولكن ليدخل التحدى الحقيقى فى حياته ، فقد ظل طويلا ينتظر دون ان يفقد الأمل وظل يعد نفسه أمام أصدقائه بأن “الفرصة ” لو جاءت فلن تضيع ابدا وسيكون جديرا بها . وبالفعل جاءت .. وقرر لطفى لبيب أن يتحول أقل دور إلى قماشة عريضة تجمع كل الألوان ،تعلم أن يضيف إلى كل كلمة ينطقها حتى لو كانت على لسان صيدلى سيظهر فى مشهد عابر ، فقد تعلم الكثير من سنوات الانتظار وشاهد ممثلين من ورق يتساقطون سريعا وشاهد أنصاف الموهوبين يأخذون الفرص ويضيعونها فى الهواء، فتحول إلى غول يلتهم كل الأدوار وملأ الشاشات قبل أن يظهر بيومى فؤاد ليكرر التجربة نفسها تقريبا ، فهو موهوب كبير انتظر طويلاً أيضا.
جاءت الفرصة وتمسك بها لطفى لبيب مثل تمسكه بالحياة نفسها ،أصبحت هى الحياة وليس دونها شىء ، فتألق وصنع حالة بهجة جديدة للمشاهد وهو يتنقل بخفة بين الأدوار ،فهو ممثل “تراكمات ” وليس ” صدمات ” بمعنى أن نقطة قوية تسقط بشكل منتظم تستطيع ان تخترق قلب صخرة جامدة ، ونجحت “النقطة المنتظمة ” وكسب لطفى لبيب الرهان وأصبح فاكهة أفلام جيل “هنيدى وأحمد حلمى وكريم عبد العزيز “،وكان هذا الفنان قد اكتمل تماما عندما ظهر للجمهور بملامح منحوتة يصعب نسيانها وهو يؤدى دور السفير الإسرائيلى فى فيلم “السفارة فى العمارة “.
سيناريو مرفوض
سائق الأجرة الفوريجى الذى استقبل ” المصرى ” فى المطار هو الطحينة التى أعطت فيلم عسل إسود طعما ،ولا ينفصل الأداء الواعى لهذا الدور عن علاقة “لطفى لبيب ” بالأدب والفن ، فهو فنان وبطل من أبطال أكتوبر ،ومثقف ..وتلك صفة نادرة فى الوسط الفنى ولا يحملها سوى عدد قليل يعرفهم الجمهور بالاسم ، فشخصية الإسرائيلى ـ مثلاً ـ ليست مجرد ” واحد أخنف”بمناخير طويلة ، لكنها تحمل جينات الخبث والمكر والدهاء والنظره الاستعلائية ، وكل ذلك يحتاج إمكانيات كبيرة وغير معهودة فى سجل تمثيل الشخصية الإسرائيلية ـ وليست اليهودية والفرق كبير ـ وكان لطفى لبيب جديراً بها وبتقديمها مع عادل إمام فى السفارة فى العمارة ، واعتقد أنه لو كان سئل عن الدور الذى يحلم بتقديمه لكان اختار هذا الدور، حيث يمتلك لطفى لبيب وعيا خاصا بهذا الجانب ، ليس للوعى السياسى الذى يمتلكه وليس أيضا لمشاركته كجندى فى أول كتيبة عبرت قناة السويس وأعادت إلينا الكرامة فى اكتوبر 1973 ، ولكن لأن كتابه الذى صدر منذ أيام بعنوان “الكتيبة 26 ” عن دار ميريت للنشر نص سينمائى رائع يصور تفاصيل جديدة لحياة جنود مصريين من لحم ودم عاشوا تجربة العبور مثلما يخوضون تجارب الحياة ،عاشوا الرعب والخوف والقلق والألم ، وظلت قلوبهم معلقة بالانتصار ، وينقل المؤلف لطفى لبيب تفاصيل مدهشة تجسد حياة الجنود على الجبهة وترصد حكاياتهم وأحلامهم فى مائة صفحة من الروعة والتشويق ، ومن مفارقات القدر أن ترفض الرقابة على المصنفات هذا السيناريو فى الوقت الذى نطالب فيه بصناعة أفلام تناسب قيمة حرب أكتوبر وقيمة انتصارناعلى العدو الصهيونى فرصيدنا عن حرب تحتل مكانة فريدة فى تاريخ الحروب مجرد افلام بليدة نقدمها فى ذكرى أكتوبر منذ ثلاثين عاما ، ولا نمتلك سوى عدد قليل من التجارب الجيدة نذكر منها :” أغنية على الممر “للكاتب الكبير “على سالم ” قبل أن يقبل بالتطبيع مع إسرائيل ، و”أبناء الصمت” للكاتب الكبير مجيد طوبيا .
……………………………………………………….
من كتاب ياجميل ياللي هنا