اللوحات محسن شعلان
احترق المكان الذي كانت تحبه هدى، ارتفعت ألسنة اللهب أمام زوجها طارق وهو عاجز عن فعل شيء سوى مراقبة ألسنة النار تتصاعد من الاستراحة الخشبية الملحقة بالفيلا وتُحيل المكان إلى خرابة سوداء!! هل كانت هدى تجلس على أريكتها فى هذا المكان الذي كانت تعشقه؟ هل تفحمت جثتها وسط الكتب والأسطوانات وفناجين القهوة! هل قررت التخلص من حياتها مع طارق بهذه الطريقة المرعبة، هل أحرقت قلبه وعقله؟ ماذا حدث ليصبح فاقداً للوعي على هذا النحو؟ وأين (ماهي)ابنتهما؟ وأين هو؟ ولماذا يشعر بأن هدى لم تمت وأن طيفها يراوده في كل مكان!
وسط هذا الحريق العقلي والعاطفي تبدأ دينا سمك روايتها الممتعة والاستثنائية في اختراقها لعالم جديد ومذهل يبدأ من عنوان روايتها (أياواسكا) الذي سنعرف أنه خلطة من النباتات الشعبية يتم تحضيرها بإشراف طبيب يمتلك معرفة كبيرة بعلوم الطب النفسي ومراحل تطوره بداية من التنويم المغناطيسى وليس انتهاءً بعقاقير(السيكاديليكس).
نحن فى لعبة نفسية إذن، نحن والشخصيات سندخل مع الكاتبة إلى عالم (أياواسكا). تبدأ الرواية بعاصفة غضب مكتوم يعيشها طارق بعد مرور شهور على احتراق الاستراحة وغياب هدى. فهو تائه، فاقد للمكان والزمان، ولا ينتظر سوى أن يسمع صوت هدى. وفى تلك اللحظة يدخل منير الطبيب النفسي الشهير الذي دخل العائلة من خلال هدى وأصبح قريبا جدا من ابنتهما (ماهي). ويدور بينهما حوار عن تلك الحالة التى وصل إليها طارق، وكيف أن الطب النفسي تقدم كثيراً، وأن هناك عقاراً جديداً مستخلص من النباتات يمنح المخ البشري مساحات للتواصل الروحاني مع الآلهة. وقال إنه يقوم بتجربة على هذا العقار تحت إشراف معهد الدراسات النفسية بجامعة جنوب الدانمارك، ومجموعة آخرى في آسيا والهند. وأن التجارب كشفت عن تاثير كبير لإن العقار يساعد على تنشيط خلايا لم تعمل من قبل داخل العقل !.
ليس بين منيرـ الذى يتحدث الآن ـ وبين طارق ـ الذي يستمع بتركيز ـ علاقة صداقة قوية، لكن طريقته في عرض الفكرة وتحفيز طارق على خوضها واعتبارها فترة نقاهة حفز طارق على قبول العرض فالمكان الذي سيذهب إليه قريباً من البيت وهو ليس مصحة وليس مركزاً للتأهيل النفسي لكنه (الروضة).
وقبل أن ننتقل مع الكاتبة إلى الروضة وجمال الروضة فى تنسيق زهورها واختيار ألوانها بين الأبيض الناصع والأزرق المبهج، نتوقف مع طريقتها فى عرض الشخصيات. فخلال سطور قليلة نعرف خيطا عن شخصية منير الطبيب النفسي لمجموعة من الاسماء المعروفة، كثير القراءة والمتابع الجيدا للأفلام الوثائقية. ليس متدينا، لكنه يُظهراهتماما بالأديان والروحانيات وبفكرة الإيمان في المطلق. بينما نعرف أن طارق يعمل في مجال الاستثمار ويهوى التنس وكرة القدم والاقتصاد. واستراح تماما بمجرد دخوله مع منير إلى الروضة، رائحة الياسمين تفوح وتعطي للأزرق والأبيض جمالاً هادئاً يتسع مع الموسيقى الكلاسيكية الممزوجة بنكهة صوفية بامتداد المساحة الخضراء بأشجارها الوارفة. وها نحن ندخل مرحلة اللعب في الدماغ الذي بدأ بالفعل منذ أن دخل طارق إلى الروضة وعالمها.
نتعرف سريعا على الشخصيات التي سيقيم طارق بينهم، بعبارات خاطفة وفي أقل من صفحتين نرى (منى) وهي تقطف الزهور وترحب بمنير وصديقه الجديد، وتتحدث بفرحة عن لوحة بدأت في تلوينها فهي فنانة متقلبة المزاج. ثم يخرج (مهدي) الثلاثيني الغاضب والذي يبدو متعجرفا. ويظهر كريم الشاب الصغير الذي لا تعرف إن كان مراهقاً أم عجوزا، ولكن بعبارة واحدة من مهدي نعرف أن زوج أمه هو المتكفل بتمويل هذا المشروع (كلنا هنا علشانه.. جوز أمه هو اللي بيصرف على المكان. أوعى تفتكر إن القرشين اللى هيلهفهم منير منك هم اللى مخليينه مكمل .. لولا كريم يمكن المصحة ما كانتش اتعملت).
وسنعرف من الآن أننا سنعيش قصة طويلة مع كريم هذا، وفي جلسة التعارف سنجد شادي الكاتب المغرور ثقيل الظل (واحد من أشهر كتاب الرواية في مصر، وأكثرهم تعرضا للنقد، له عشرين رواية، نصفها تقريبا تحول إلى أفلام في السنوات العشر الماضية). ومن بعيد يطل عم كردي حارس المكان القادم من الصعيد ومقام سيدي الدندراوي والذي يحمل المباخر الخزفية بعطورها من مكان إلى آخر. والروضة بشكل عام تبدو كفندق صغير بسبع غرف متسعة وتربيعة بالوسائد والطاولات الملونة.
ومع كل هؤلاء ستبدأ الرواية تدخل بك عالما آخر يجمع كل هؤلاء ويحلق بهم فوق الواقع. وستتعامل الكاتبة بوعي شديد وهى تقدم لك الإحساس بالمكان، كما ستدهشك باكتشاف الأبعاد النفسية والإنسانية لتلك الشخصيات المزعجة والمنزعجة نفسيا والهاربة من جحيم الواقع إلى غموض عالم أياواسكا.. وتدهشك باللغة التي تجري كما تجري ذكريات هدى مع طارق.. النقلات السريعة التي تؤجل حديثا لتأخذك إلى التركيب النفسي للشخصيات. فهناك صراع محموم لكنك لا تراه، خفايا مؤامرات تحاك وترتيبات تتم، هناك ريبة في تصرفات منير ومساعده الدكتور ناجي.
ووسط كل هذا تظهر (منى) دائما باعثا للدفء والأمل البعيد، تستريح لطارق ويستريح إليها ويتبالان مودة تجعلنا نكتشف مدى براءة هذه الفتاة التي جاءت الدنيا وسط ثروة كبيرة يعيش فيها والدها الفنان شبه المعروف محسن داود، الذي امتلك ثروة طائلة. عاش في البداية على ما يمنحه له والده من مال وفير، ثم من ميراث حوّله في غضون سنوات قليلة إلى ودائع في البنوك بعد أن باع نصيبه في كل الأصول والشركات التي تركها أبوه.
زواج محسن وياسمين لم يكن سوى صفقة بين عائلتين الأولى تمتلك الثراء، والثانية معروفة بنجومها في السلك الدبلوماسى. ولم تترد ياسمين الطموحة إلى منصب رسمي رفيع لا يقل عن (سفيرة) في قبول الصفقة بالزواج من فنان مخبول كما يشاع عنه، ولن يعطلها عن رحلاتها وسفرياتها حتى بعد أن جاءت (منى) ظلت ياسمين بعيدة عنها. وتكفل الفنان بتربية ابنته على الألوان والرسم ويشركها معه في السهرات التى يقيمها في بيته العامر، وأقام لها معرضها الأول وهي في مرحلة المراهقة بفضل علاقاته في الأوساط الفنية والصحفية أصبحت منى فنانة معروفة. حتى انقلب حالها حين مات والدها، لتجد نفسها وحيدة مع السيدة ياسمين التي ستعيد فرض حصارها وممارسة دور الأمومة بشكل صادم مع منى التي ستنتصر وتحقق ذاتها لكن ألما ظل يطاردها، ربما حرمانها من والدها وربما بحثا عن شىء ضائع وسط كل هذا الركام.
وهناك مهدي الذي سيقع فى غرام طارق رغم ما حدث بينهما فى البداية من عدم استلطاف، الفارق الزمنى سيذوب لأن مهدى ابن الثلاثين يمتلك خبرات واسعة ومعلومات أكبر عن الأوياسكا، وعن مشروع منير كله. سيكتشف طارق الكثير عن مهدي في سهرة يقضيانها سويا، عاش مهدي مأساة كبرى وعانى نفسيا من حادث فقدانه أمه وشقيقه التوأم هادي. صحيح نجح وأصبح أهم المبرمجين العاملين في مجال تأمين نظم المعلومات الخاصة بالشركات الكبرى، وحقق ما لم يصل إليه شاب من الطبقة المتوسطة من أسيوط؛ لكنه لم يتوقف عن محاولات التخلص من ألم الفراق، كان يشعر أن أمه تسكن داخله وتتحدث إليه بحواديتها وبجوارهما هادي. تنقلّ بين مدن العالم وبحث عن الخلاص في المخدرات والجنس، وجرب السفر إلى كل بلاد الدنيا. دخل مدارس لليوجا في الهند، وحلقات ذكر في اليمن، وزار مقابر الأولياء في القاهرة ودمشق. وظلت أمه تسكن روحه مع تؤامه، حتى قرأ مقالاً عن (الأياواسكا) فحزم امتعته إلى بيرو وحجز في المصحة المخصصة ونجحت التجربة بالفعل وتخلص تماما من الألم الروحي الذي عاش به كل هذه السنوات!! فقد كان مهدي طفلاً مدللاً مع تؤامه هادي، يعيش مع أم عظيمة، تصفها الكاتبة ( تمشي مع ولديها التوأمين هادي ومهدي في شوارع مدينة أسيوط كمن امتلكت الدنيا بين يديها، كأن واحدة غيرها لم تنجب صبية، وإن أنجبت فلم تنجبهم في بطن واحدة، وإن فعلت فهما ليسا فى جمال طفليها، كانت تغني معهما بصوت عال، وتحكي الحواديت عن جبال وبلاد وألوان وطيور وحيوانات) لم تخرج أسماء من أسيوط إلا مرتين للقاهرة والإسكندرية وفي الثالثة التي كانت إلى الغردقة انتهى كل شىء. كان مهدي وتؤامه في الثالثة عشرة عندما انقلبت السيارة وماتت أسماء ومات هادي وتوقفت الحواديت. ولم يجد الأب طريقة لتسلية ابنه إلا شراء كمبيوتر، وعاش مهدي حياته مع هذا الجهاز محبوس معه يبحث عن صوت أمه ودفء شقيقه. تخلص مهدي من الألم بالأياوسكا، لكنه أصبح رجلاً بلا ذكريات ولا حكايات!! كيف يعيش من غير ألم!! مهدي الذى عاش كل هذه التجارب يكاد يكون هو صاحب الفكرة التي أتخذ منها منير هذا المكان حقلاً للتجارب، يحكي مهدى لطارق كيف جاءت الفكرة وكيف كان كريم الذي رأيناه منذ قليل سببا من أسباب تكوين الفكرة وتفعيل التجربة، يقول مهدى : (كنا فى سهرة عند إسماعيل راشد جوز أم كريم وكانت مراته ميته من شهري، ومنير هو الدكتور اللي بيعالج ابنه من صدمة قتل أمه وحكيت لمنير عن (أيواسكا) وتجربتى في بيرو ،وقال إنه على علم بها).
ها نحن نلتقى بكريم من جديد، لنرى كيف عاش حياة غريبة مع أمه التى تزوجت خمس مرات، وفى كل مرة كانت تسعى لضمان أكبر وقت من الأمان والسعادة لابنها. لم تسع إلى حياة آمنة وسط المجتمع فكل الأزواج لديهم زوجات وأولاد وسيعودون إليهم بعد الاستمتاع معها فترة زواج قصير؛ حتى كان الزواج الأخير من إسماعيل راشد صاحب الثروة والنفوذ والقوة في إعلان علاقته بزوجة جديدة. وبالفعل نقل إسماعيل الحياة إلى منطقة آخرى من الأمان، وجعل زوجته سيدة مجتمع تسعى إلى خوض انتخابات مجلس الشعب. كل هذا وكريم يعيش وحيداً مشغولا بمصيره الذى ظل عالقا ومتوقفا على طبيعة كل زوج في حياة أمه؛ حتى جاء إسماعيل راشد وكادت الحياة أن تستقيم لولا أن قُتلت أمه فجأة، خرج إلى الصالة ووجدها غارقة في الدم، فهل شاهدها بالفعل أم تلك تهيؤات؟ هل يستطيع التخلص من عذاباته النفسية والشخصية؟! زوج أمه سينشغل بالقاتل ويبحث عنه بأي ثمن، ولن يترك ابن زوجته ضائعا ومصدوما.. لذا كانت فكرة أياوساكا التي رحب بها وقام بتمويلها، فهل كل ذلك حباً في ابن زوجته أم مساعدة للعلم ودعم للتجارب الطبية التي يقوم بها منير؟ كل ذلك تجيب عنه الرواية المكتوبة بلغة لا أعرف توصيفها، فهى ليست محفوظية، وليست إدريسية، وليست عامية معجونة بالفصحى، لكنها لغة دينا سمك وحدها التى تحتاج منها كتابة فقط، فهى لغتها وحدها وأسلوبها وحدها.
صفقتُ لدينا سمك مرات ومرات، ليس لأنها فاجأتنى بتلك الرواية البديعة؛ ولكن لتاريخ طويل من علاقة الصداقة والمحبة التي لم تتراجع أو تقل خلال عشرين عاما على أقل تحديد. عرفتها فى الأهرام فتاة من المعادي بثقافة مختلفة وانفتاح على ترجمات وعوالم مغايرة فكانت أول من علمنى التعامل مع الكمبيوتر وعالجت خوفي من هذا الجهاز الذي كان مرعبا في بداية ظهوره. وتلاقينا على محبة الكتب وعمها الكاتب والمسرحى الراحل نزار سمك، وها نحن نلتقى فى أياواسكا من جديد.
أياواساكا – دينا سمك – دار المرايا