هذا كتاب لن ترضى عنه جموع الناصريين، ليس لأن صاحبه عمل طويلاً فى صحف ناصرية حتى ظنّ الكثيرون أنه أحد أقطاب الحزب الناصري!! ولكن لأن الكاتب أكرم القصاص يعيد ترتيب أوراق السادات ترتيبا منطقيا يؤدى إلى نتائج تؤكد جميعها أن الناصريين ظلموا السادات ظلما فادحا!! وأن رؤية جموع من اليسار المصرى عبر 4 عقود للسادات تخضع للاستقطاب الذى يعزلهم عن التفكير!!
بتلك الجرأة يرى القصاص أن هناك من اعتبر أنور السادات امتدادا لثورة يوليو والجمهورية التي أسسها جمال عبد الناصر. ومن اعتبره رِدّة وثورة مضادة انقلبت على ما تحقق. فى حين يرى الكاتب أن كل المصطلحات والتوصيفات التي أطلقها اليسار كانت منقولة عن أدبيات اليسار الأوربي!! ويقول القصاص إن تلك التوصيفات للسادات وعصره كانت تحمل كليشيهات وقوالب، وتقدم تحليلات تبدو متماسكة، من دون قدرة على تفسير للواقع. فالذين اتهموا السادات بالردة عن النضال العربي، لم يقدموا بديلا للسلام، ولا تفسيرا لكون أغلب الذين اتهموا السادات بالخيانة عام 1977؛ ذهبوا فيما بعد عام 1991 الى مدريد وأوسلوا!!
ورغم ما يبدو من انحياز للسادات إلا أنك ولن تجد بين السطور دفاعاً، ولكنك ستجد تفنيدا دقيقا لقراراته التى استفزت الناصريين وغيرهم. فالانفتاح الذى أصبح صورة واحدة فى العقل الجمعي؛ لم يكن (سداح مداح) كما روجت ماكينة الإعلام الناصري وغير الناصري عبر سنوات. فالسادات ـ كما يقول الكاتب ـ كان يحاول مع الحكومة إصلاح الاقتصاد المنهار تماما بعد حرب أكتوبر1973، وأن كثير من الدول النفطية أعطت ظهرها للسادات. وبدت المعونات أقل مما كان يتوقعه بعد خوض حرب انتصر فيها، وبعد 6 سنوات من هزيمة كانت قد أكلت الاحتياطيات وأتت بالخزينة على الأرض.
أما انتفاضة يناير 1977 التى جاءت بعد إجراءات التقشف والانهيار الاقتصادي؛ فلم تكن شعبية كما زعم اليسار!! وأكذوبة عداء السادات لرجال عبد الناصر ولليسار عموما مردود عليها. فالسادات ـ كما يقول القصاص ـ لم يكن يخفي انتقاداته وهجومه على اليسار والناصريين و” الشيوعيين. ولا يفوت فرصة إلا ويوجه لهم انتقادات بل وسخريته من الكليشيهات التي كانوا يستعملوها. لكنه أيضا استعان برجال عبد الناصر ويساريين كوزراء في الحكومة، منهم الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، والدكتور فؤاد مرسى وهما من قيادات اليسار الكبار. ونفى مرات أنه يخاصم الناصريين، أو رجال عبد الناصر، وأنه استعان برجال عبد الناصر وابرزهم عزيز صدقي ومحمود فوزى وغيرهما.
انتفاضة يناير..ليست انتفاضة!!
حتى عندما أعاد طرح سياسة الانفتاح وما تبعها من انتفاضة يناير الشهيرة 1977؛ تجنبّ أكرم القصاص الإثارة أو إضافة الفلفل والشطة والكمون واكتفى بهدم الفكرة السائدة لدى قطاعات واسعة فى تفسير معنى (سياسة الانفتاح التي قصدها السادات)! ويستشهد فى ذلك بمقال أحمد بهاء الدين الشهير، ويتوقف طويلاً أمام تداعيات المقال على موقف رئيس الوزراء وموقف السادات نفسه. ويقول الكاتب بكل أريحية :(..وكان من الواضح أن انتفاضة يناير 1977 بلا قيادة وأن الجماهير العمالية والفقيرة والمتوسطة خرجت بشكل عفوي. لم تتطور المظاهرات إلى ثورة تطيح بسلطة السادات بالرغم من أتساع نطاق الانتفاضة ليشمل أنحاء الجمهورية وعجز قوات الشرطة عن قمعها. الرئيس السادات اتهم اليسار بتدبير المظاهرات؛ إلا ان اليسار نفسه اعترف بأنه لم يكن له دخل بالتحريض أو التنظيم بل انه أعلن رفض الحرق والتحطيم والنهب لبعض المنشآت. وبدا عجز أحزاب اليسار الرسمية والراديكالية عن لعب دور فاعل ومؤثر في الانتفاضة. والمثير أن الأحزاب والتيارات السياسية وقياداتها التقليدية لم تستفد من الأزمة، مثلما لم يستفد منها النظام.
لكنه لا يصل إلى هذا الحكم بأن انتفاضة لم تكن سوى (هبّة) عمالية، إلا بعد استعراض كامل لمحاولات تفسير ما جرى في 17 و18 يناير 1977، والتي أطلق عليها الرئيس السادات انتفاضة الحرامية؛ بينما أعتبرها اليسار انتفاضة شعبية. فى حين كان للكاتب رأى ثالث فهي لم تكن انتفاضة حرامية، ولم تكن انتفاضة شعبية: ( بعض اليسار سعى لاعتبارها ردا على ما اعتبروه “الثورة المضادة” المأخوذ من أدبيات اليسار، وعنوان كتاب الدكتور غالي شكري “الثورة المضادة في مصر” الذى صدر عن كتاب الأهالى 1985، واعتبر أن تراجع الدولة عن الأفكار الاشتراكية والارتداد عن مكاسب العمال والفلاحين تمثل ردة أو ثورة مضادة. و انتقد غالي شكري اليسار لعدم القدرة على تكوين موقف أو تشكيل وعي، كما عجز عن الالتحام بالشعب، وأثبت انه في عزلة.
غالي شكري ـ يقول القصاص ـ ظهر في الكتاب حائرا وهو يحاول التنظير للثورة المضادة بناء على انتفاضة يناير 1977، التي كانت انتفاضة غضب بلا رأس أو تخطيط، وهبة انفعالية تركزت في القاهرة والإسكندرية وبدرجات أقل في الأقاليم والمحافظات، والوجهين البحري والقبلي باستثناء المحلة الكبرى التي اختلطت فيها التنظيمات العمالية، ببدايات التدين والإخوان الذين نشطوا بعد أن أعادهم السادات إلى الحياة السياسية.
ناصريون .. وسادتيون وبينهما هيكل
يتخلص الكاتب من كل التراكمات المعرفية الخاصة بحكم السادات؛ ويبدأ من جديد كتابة الحكاية بترتيب تواريخ وقوعها وباستشهادات من كبار الكتاب والصحفيين المعاصرين لتلك المرحلة. فهو يرى أن تحويل التاريخ إلى مباراة بين مشجعي عبد الناصر وأنصار السادات وخصومهما، وما استتبع ذلك عبر سنوات من ترسيخ الأكليشهات والشعارات القديمة؛ أدى إلى ضباب في الرؤية وتفريغ للتاريخ من محتواه الحقيقي، وأصبح كارثة على التفكير وعلى وجهات النظر الآخرى. فالاستقطاب الذي جعل المصريين فريقين (ناصريون وسادتيون) تمت صناعته على أيدي كبار الكتاب بكل أسف.
وهذا الاستقطاب يرصده الدكتور فؤاد زكريا، في كتابه ” كم عمر الغضب”، ويشير إلى أن معركة كتاب هيكل” خريف الغضب”، كان الاستقطاب فيها واضحا أعطاها أنصار هيكل وخصومه طابع الصراع بين عهد السادات وعهد عبد الناصر. كان المصفِّقون المتحمِّسون لما كتبه هيكل أنصار عبد الناصر، و كان الناقدون الناقمون على الكتاب هم، بلا استثناء تقريبًا، من مؤيدي سياسة السادات. بينما يعتبر فؤاد زكريا “الاستقطاب للجماهير بين ناصريين وساداتيين، والاختيار المفروض عليهما بين التصديق المطلق والتكذيب المطلق” ما هو إلا مظهرٌ خطير لضيق الأفق السياسي.. ولا بد للعقل الواعي أن يتجاوزه، حيث يمكن أن يؤيد البعض هيكل دون أن يكون منحازا له؛ أو أن يكذبه، دون أن يكون منحازا لخصمه.
السداح مداح بين السادات وأحمد بهاء الدين
كان الهدف من الانفتاح صائبا بمعنى أن يستثمر المصريون، لكنه تحول إلى استهلاك.
هكذا يصدمك أكرم القصاص، فمتى كان الانفتاح صائباً؟! لكن مع الصدمة ستجد الكاتب يأخذك من يدك بهدوء إلى وقائع ما جرى آنذاك كي ترى الصورة كاملة وتحكم بما تراه، وإن كان الكاتب يؤكد أن الانفتاح لم يكن سياسة خاظئة!
مع تطبيق الانفتاح ـ يقول القصاص ـ بدأت بالفعل أشكال مختلفة من الفعل ورد الفعل. ومبكرا نبه بعض الكتاب إلى خطورة الانفتاح من دون اتجاه، أو تمهيد المجتمع. وبدأت انتقادات أشهرها مقال «الانفتاح ليس سداح مداح» للكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين، رئيس تحرير الأهرام، وقتها والذي نشر المقال في الصفحة الأولى 12 يوليو، 1974، وكشف ما دار في المقال وتداعياته في كتابه “محاوراتي مع السادات”. مشيرا إلى أن الانفتاح شهد ظهور “مستثمرين جادين”، وأيضا ظهور (نصابون محليون ودوليون). حيث تزامن الانفتاح مع حملات في الإعلام تندد بفترة ما اسموه الانغلاق، وتمتدح الاستيراد. تناول بهاء الدين قضية الانفتاح قائلا «ظن بعض الناس أن سياسة الانفتاح معناها أن تصبح مصر الاقتصادية والاجتماعية «سداح مداح». وقال عن نظام الاقتصاد الحر الكامل، لم يعد موجودًا إلا في كتب الاقتصاد القديمة، والعالم الرأسمالي ذاته يعرف البنوك والصناعات الكبرى التي تملكها الدولة؛ ويعرف حقوق العمال والتأمينات المختلفة، ويعرف قوانين منع الاحتكار، ويعرف أساليب الحماية من المنافسة الأجنبية. لكن دعاة «السداح مداح، وكل شيء مباح» لم يدركوا أنه حتى الرأسمالية الوطنية يهددها هذا المنطق. فالاقتصاد الحر بمعناه المطلق أن البقاء للأقوى، وهو ما يدمر الصناعة لصالح الأجنبي الأقوى؛ بينما يفترض تجهيز الصناعة للتحول. لم يكن بهاء ضد الانفتاح، لكن ضد الهجوم غير المعقول من أنصار الاستيراد لسلع ليس لها حاجة، وتجاهل أهداف الانفتاح انه لخدمة المنتج المحلى وليس المستوردين. لكن ما جرى أن الاستيراد هو الذى اكتسح لأنه يضاعف من الأرباح، من دون أن يفيد الاقتصاد.
وشرح بهاء تحولات الاقتصاد والنفط والمال، ودعا الى أن يكون هناك عقل يدير هذا بشكل لا يضر الصناعة الوطنية، ولا يعطى الأولوية للأجنبي، بل ودعا لمساندة القطاع الخاص المحلى.. وأثار المقال ردود أفعال كبيرة.
فستق.. وسفن آب .. فى نظرية الدكتور حجازي
اتصل الرئيس السادات، تليفونيا، بالكاتب الصحفي أحمد بهاء الدين رئيس تحرير الأهرام، يوم 13 يوليو 1974؛ ويسجل بهاء كل هذا في كتابه “محاورات مع السادات” أن الرئيس السادات قال له في الاتصال التليفوني، إن الدكتور عبدالعزيز حجازي غاضب جدا من هذه المقالة، وأنه شكا بهاء للرئيس إليه. وأن ظهور مثل هذا المقال بهذا العنوان في الصفحة الأولى من «الأهرام» وموقع باسم رئيس التحرير بعد أقل من ثلاثة أشهر من صدور القانون، يعرقل الانفتاح. ويروي بهاء أنه كان على وشك السفر إلى الخارج بضعة أسابيع للعلاج في لندن، فلما عاد وجد “أن الدكتور حجازي قد استعمل فى مؤتمر صحفي له عبارة «الانفتاح ليس سداح مداح» وأن حملة بدأت ضد حجازي في الصحف. وفي زيارة بهاء الدين “لحجازى” أشرت فى حديثي معه إلى أنه استعمل العبارة التي قيل لي إنه غضب منها».. هنا يؤكد بهاء الدين: انفجر الدكتور حجازي في حديث غاضب طويل، قال لي ما معناه: أنه أصدر قانون الانفتاح، وأنه تم السماح بالاستيراد دون تحويل عملة لأول مرة وأن لا شيء اسمه بدون تحويل عملة، لكن تمويل المشتريات من أموال العاملين بالخارج مباشرة. وأن الهدف هو استيراد مستلزمات الإنتاج للصناعات المتواصلة البناء والنجارة والجلود. لكن الأمر تحول الى استيراد سلع استهلاكية الذي تضاعف، وتسارعت دورات رأس المال. وبالرغم من فهم حجازي لهدف الانفتاح لكنه؛ فوجئ بالهجوم الاستهلاكي وضرب له مثلا: «لو أن لديك مالا في الخارج، فأسهل عليك ودون أي علاقة بالتجارة والصناعة، أن تشترى من بيروت «فستق» بمائة ألف جنيه، وتعرضها في أسواق القاهرة وسوف تلتهمها القاهرة في أسبوع، فتكسب أرباحا طائلة بسرعة وتستورد «فستق» من جديد، وهكذا يدور مالك عشرات المرات بسرعة، والبلد ليست مشكلتها الآن الفستق والشوكولاتة وزجاجات «السفن آب» التي تستورد وتباع الزجاجة منها في مصر بخمسة وسبعين مليما. واعترف حجازى لبهاء أن هناك قوى عالمية تضغط في هذا الاتجاه. وبدخول أصناف من الناس الغرباء عن عالم التجارة والمال والاقتصاد، وبمخاطر هذا التيار الذي يجرف أمامه كل سدود أو قيود، أو نظم، أو قوانين.
ويتوقف الكاتب عند النقطة ويقول ( إن بهاء وغيره، كانوا يدعمون انفتاحا مخططا، لكن رأس المال والربح كان يغري المغامرين والسماسرة باستيراد كل ما يمكن استهلاكه بسهولة. وهو ما رافقه أيضا فساد وثغرات فتحت المجال لاستيراد سلع وأطعمة فاسدة، أو منتهية الصلاحية ومواد ليس هناك حاجة لها. الشاهد أن الانفتاح استمر، وواجه السوق هجمات، للاستيراد، بينما تراجعت الصناعة، وتوقفت بعض الورش والصناعات المحلية كالحصير والكليم، والسجاد اليدوي، والأحذية لصالح المستورد الارخص حتى لو كان من البوليستر. وفشلت محاولات توجيهه لصالح الإنتاج، واستمر استهلاكيا، وهو ما انعكس في كل المجتمع الذي بدأ يهتز أمام التدفقات من الفيديوهات وأشرطة الكاسيت والغناء والسينما وشارع الهرم الذي افتتحت فيه كازينوهات تستقبل الأثرياء الجدد. وظهرت سينما المقاولات، كان الهدف من الانفتاح صائبا بمعنى أن يستثمر المصريون، لكنه تحول إلى استهلاك.
رغم الدقة المتناهية فى تسجيل الأحداث وتحليل التعليقات عليها وإعادة قراءة تفاصيلها؛ إلا أن اللغة عند أكرم القصاص كانت سهلة وتخلو تماما من التقعر السياسى والإيدلوجى. كأنما يحكى الحكاية لجيل جديد لم يعرف عن تلك الفترة شيئاً فيأخذ بيده تدريجيا حتى يصل معه إلى نهاية الرحلة. وهذا ليس غريبا فقد بدأ أكرم القصاص كاتبا للقصة وقارئا نهما للروايات المصرية والعالمية، ويمتلك حصيلة وافرة أضاف إليها بعض الاجتهادات الطبية التى سمحت له أن يكون طبيبا لجيلنا من الصحفيين المرضى طوال الوقت بألم القولون والضغط العصبى والتلبك المعوى. فكان يكتب روشتات على ورق الدشت!! ومن الطريف أن كل وصفاته كانت تؤدي إلى نتائج جيدة باستثناء اجتهاداته فى الوصفات البلدي التى تقوى الباءة وتعيد النشاط إلى الأعضاء المُجهدة. ومازلنا نضحك حتى اليوم كلما تذكرنا وصفات الموز واللب السوداني. كما يتمتع أكرم القصاص بروح كوميدية دفعته إلى الكتابة الساخرة وأنجز فيها أكثر من عمل طريف ولطيف وممتع. وقد تنبأ بكل ما يحدث فى عالم السوشيال ميديا حاليا فى كتاب صغير وخفيف الظل (السيبراني) الذى صدر عن دار الهلال. كما نقل عالم السوشيال الساخر في كتابه “عوالم خانة” الصادر عن دار حواديت.
شعرة معاوية .. السادات وخصومه – أكرم القصاص – منشورات بتانة