عندما ظهر هذا الفيديو القصير لنجيب محفوظ وهو يعزف على القانون، شعرتُ بكسوف وخجل. فهاهو الرجل الذي كتب كل هذه الروايات والسيناريوهات والمنضبط كالساعة في مواعيده؛ وجدّ وقتاً وراح يبحث عن الموسيقى لا ليسمعها ولكن ليتعلمها ويعزفها كجزء أساسي للكاتب الذي يريد اكتشاف فلسفة الموسيقى وتأثيرها على العقل والروح، تماماً مثلما قرأ عن علاقة كبار أدباء العالم بالموسيقى وشغف أبطالهم بها!.
يالنجيب محفوظ الذي كركب أجيالاً على السلالم جريا خلفه ولم يلحق به أحد!.
اللعنة على الكسل، هكذا نقول وسرعان ما ننسى، دعنا من ذلك وتعالى إلى عالم الموسيقى في دماغ نجيب محفوظ. فهو حين ذهب ليتعلم العزف، إنما كان عاشقاً للطرب ويريد لأبطال رواياته أن يجعلوا للموسيقى مكاناً في حياتهم. يؤرخ للغناء والطرب إلى جانب السياسة. وهل كان السيد أحمد عبد الجواد بطل الثلاثية مجرد مهلساتي وبتاع نسوان، وعنتيل وسبع البرابرة على الست أمينة؟! لا يا صديقي كان عاشقا للموسيقى متابعا لتطوراتها. لديه خبرة واسعة بأصول الغناء، فتراه ضاربا للدف كمحترف ويتحدث عن الطرب كمحلل فنى يتابع الجديد. بطل من لحم ودم يضحك ويشرب ويحب ويبكى ووراء كل ذلك عشق خاص للغناء:
” لم يكن السيد أحمد عبد الجواد من سكارى الحانات الخائبين في الحب أو الحياة، بل كان وجيها موفقا في الحياة، وكان الغناء لا يبارح قلبه أبدا، فإذا خلا إلى نفسه دندن هامسا وقد حضره الطرب: ياما بكره نسمع وبعده نشوف”.
ورغم تألق السيد أحمد عبد الجواد في سهرات زبيدة العالمة، إلا أن الغناء الحقيقي الذي يتسلطن معه ليس هنا، بل هناك عند أطراف القاهرة فيقطع الطريق ليسمع سي عبده الحامولي أو المنيلاوي وغيرهما.
:”يبحث عنهم .. حيثما تكون مغانيهم، حتى أوت أنغامهم إلى نفسه سخية كما تأوي البلابل إلى شجرة وارفة، فاكتسب دراية بالنغم والمذاهب، وتوجّ حُجة في السماع والطرب”.
ولم يخجل السيد أحمد عبد الجواد من الاعتراف لزبيدة بأن غناءها للأدوار والمواويل يعتبر إهانة للفن والمزيكا!! إذ كان يرى أن غناء المواويل والأدوار لا يقدر عليه سوى فحول المطربين.
ولم يتنازل السيد أحمد عبد الجواد عن احترامه للفن إلا عندما راحت زبيدة تتمخطر وهي تغني الدور الشهير (على روحي أنا الجاني) ولم يجد السيد عندئذ مفرا من مسايرتها حبا فيها لا حبا في غنائها.
ومن النقاد الكبار الذين اهتموا بالموسيقى في أعمال نجيب محفوظ يأتي رجاء النقاش الذي رصد الحضور الكبير لأم كلثوم في أعمال محفوظ.
أما كمال النجمي وهو المؤرخ الفني الكبير فتوقف عند شخصية منيرة المهدية وتطور ظهورها في أعمال نجيب محفوظ؛ وقال في كتابه (مطربون ومستمعون) إن صاحب نوبل كان يؤرخ للغناء في عشرينات القرن الماضي. فبطل الثلاثية المولع بالست منيرة المهدية يستمع في بيت صديقه محمد عفت إلى اسطوانات المطربة الجديدة أم كلثوم (..ولكنه أعارها أذنا حذرة مضمرة لسوء الظن فلم يتذوقها رغم ما قيل من أن سعد زغلول أثنى على جمال صوتها”.
ويثور ويغضب عندما يقول البعض في إحدى الحوارات بيت زبيدة العالمة إن أم كلثوم ستكون خليفة منيرة المهدية فينفعل :
ـ كلام فارغ .. أين هذه الصرصعة من بحة منيرة؟!..
وفي تحليله لرواية (خان الخليلي) يتوقف كمال النجمي عند الغناء ليؤرخ لبدايات ظهور أم كلثوم من خلال البطل (رشدي) الذي كان يحب الغناء (حبا خيل إليه يوما أنه خلق ليكون موسيقيا)
ولم يترك نجيب محفوظ بطل روايته حتى أوجب عليه أن يدخل السينما لسماع أم كلثوم ومشاهدتها في فيلم “دنانير” الذي كان يعرض لأول مرة في تلك الأيام.
ولما جلس الشاب على كرسيه في السينما.. “طاب له المجلس في الظلمة عن كثب من الفتاة التي أضمر لها غزلا وإن لم يخفق لها فؤاده بعاطفة بعد، حتى غرد الصوت الإلهي بأغنية النبع “طاب النسيم العليل” فقفل عن الوجود، وتسلسلّ الفيلم وهو هائم في نغمة روحية عالية”.
ويقول كمال النجمي إن محفوظ كان مفتونا بأغنية “طاب النسيم العليل” أولى أغنيات أم كلثوم في فيلم “دنانير”. وأنه ـ أي نجيب ـ كان يسعه أن يدعو بطل روايته إلى فيلم آخر غير فيلم دنانير، لأن الفتى كان ذاهبا إلى السينما كي “يعاكس” الفتاة ويطاردها بإشارات الغزل وهمساته لا ليسمع الغناء الإلهي ويهيم في نغمة روحية عالية. ولكن نجيب محفوظ الذي لو لم يكن كاتبا لكان ملحناً أو مغنيا؛ لم يختر للبطل إلا فيلم أم كلثوم، لا لأنه جزء من تاريخ تلك الفترة فحسب، بل لأنه فوق ذلك فيلم “الصوت الإلهي”.
ويتتبع كمال النجمي تطور الغناء والموسيقى في خان الخليلي حتى يصل إلى القول بأن روايات نجيب محفوظ هي الشعب المصرى، بآلامه وآماله وغنائه أيضاً.. ومن يطالع هذه الروايات يعرف كيف كان هذا الشعب يغني ويسمع الغناء في مائة سنة أو أكثر من أواخر القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين.
وبالعودة إلى رواية خان الخليلي والموسيقى فنجد حوارات متعددة تدور حول الغناء، ففي أحد مقاهي “خان الخليلي” يتحدث الأصحاب عن الغناء:
– ما رأي الأستاذ احمد عاكف في الغناء أيفضل القديم أم الحديث؟!
-الغناء القديم هو الطرب الذي يأسر نفوسنا بغير عناء!..
-وأم كلثوم وعبد الوهاب؟!.
-عظيمان فيما يرددان من وحي القديم .
-أم كلثوم عظيمة ولو نادت ريان يا فجل!.
-أما صوتها فلا خلاف عليه، ولكن حديثنا عن الغناء من الناحية الفنية.
-الأستاذ أحمد راشد يعجب بالغناء الحديث بل أشاد بالموسيقى الأفرنجية.
– يا أخواننا .. أمة محمد ما تزال بخير، هل سمعتم ولو مرة إنجليزيا يغني يا ليل يا عين؟!.. الحقيقة أن من يفضل أغنية أفرنجية كمن يشتهي لحم الخنزير مثلاً!.
-اسمعوا القول الفصل: أجمل ما تسمع الأذن سي عبده “الحمولي” إذا غنى يا ليل، وعلي محمود إذا أذن الفجر، وام كلثوم في “امتى الهوى” (من تلحين زكريا أحمد).. وما عدا هؤلاء فحشيش مغشوش بتراب!..
-إن الإعجاب بالجديد من الغناء، أو بالموسيقى الأفرنجية، وحي من تقليد المحكومين الحاكمين كما يقول ابن خلدون !.
وبلغ نجيب محفوظ غاية الامتاع والمؤانسة في تصويره للصراع بين الغناء القديم- غناء الحمولي ومحمد عثمان ويوسف المنيلاوي ومنيرة المهدية وتلك الطبقة – وغناء أم كلثوم وعبد الوهاب والجيل الذي حف بهما من المطربين والمطربات .
للمزيد إقراء أيضا