ريم صالح
تخيل تبقى قاعد في حالك بتشتغل، وفجأة تلاقي الشخص اللي ظلمك زمان، واقع في ورطة ومزنوق وبيطلب مساعدتك… تعمل إيه؟ تسلمه لضميرك؟ ولا تسلمه لماضيه؟
ده بالضبط السؤال اللي بيرميه المخرج الإيراني المشاغب جعفر بناهي في وش الجمهور من خلال فيلمه الجديد “مجرد حادث” (It Was Just an Accident)، واللي دخل سباق السعفة الذهبية في مهرجان كان السينمائي 2025 بدورته الـ78 زي الرصاصة التي لا ترد.
الفيلم، ومدته 105 دقيقة، بيدور حوالين “إقبال” اللي بيتعرض لحادث سيارة مع زوجته الحامل بعد ما يخبط كلب في عز الليل. لما يتوجه لورشة تصليح، بيكتشف الميكانيكي فهيد إن الراجل ده شبه الضابط اللي عذبه زمان في المعتقل. ومن هنا، بيبدأ الصراع الحقيقي: هل الانتقام حق؟ ولا لعنة بتستمر؟
جعفر بناهي، اللي السجن كان بالنسبة له “لوكيشن تصوير إجباري”، وقرار منعه من الإخراج ومن السفر لمدة 15 سنة؛ لم ييأس بل ما زادهوش المنع إلا عناد وإبداع، وبيرجع لنا بكاميرا حادة ولغة سينمائية تفضح القهر والرماد اللي تحت رماد الحياة اليومية في إيران. بناهي مش أول مرة يعمل كده، ودي مش أول مرة يتحدى فيها القمع بالفن، لكنه هنا أكثر نضجًا وجرأة وصراحة.
“مجرد حادث” مش بس قصة عن تصادف غريب أو ماضي لسه بينزف، ده مرآة مشروخة بتعكس فيها إيران كلها: القمع، والظلم، والناس اللي بتتخبط في بعضها من غير ما تعرف مين الظالم ومين المظلوم.
الفيلم بسيط، من غير مونتاج بيخطف، لكن فيه كاميرا بتبص في عينك وتقولك: لو كنت مكان فهيد… كنت هتغفر؟ ولا هتنتقم؟
اللي بيخلي الفيلم عبقري هو إنه بسيط في أدواته، لكن معقد في أسئلته. الإضاءة باهتة كأنها جاية من لمبة نيون في زنزانة، والحوارات قليلة لكنها تقيلة، والموسيقى… لا تُذكر، لأن الصوت الحقيقي هو صوت الصمت اللي بيصرخ في وش كل مشاهد. الفيلم ببساطة هو “لكمة ناعمة على وش الظلم”.
لكن “مجرد حادث” مش هو أول إنجاز لبناهي، بل مجرد حلقة جديدة في سلسلة طويلة من المقاومة بالكاميرا عزيزي القارئ. المخرج الحائز على جوائز دولية كبرى، بنى تاريخه من أفلام بتقول “لا” من غير ما تصرخ. لهذا حثل على جائزة الكاميرا الذهبية من مهرجان كان عن فيلمه “المنطاد الأبيض” عام 1995، كأول فيلم إيراني يحصد جائزة في المهرجان. وجائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين عن فيلمه “تاكسي” عام 2015، واللذي تم تصويره وهو في إفراج مؤقت وحكايته قريبة من “تاكسي .. حواديت المشاهير” لخالد الخميسي. وانتهاء بأفضل سيناريو من مهرجان كان عام 2018 عن فيلمه “ثلاثة وجوه”، مناصفة مع المخرجة أليسيا روهواش؛ والغريب أن هذا الفيلم تم تهريبه من إيران للعرض في كان! طبعا فهذا هو قدر بناهي أن يحصل على الجائزة “غيابيا” لكنه أفلت هذا العام وحضر بنفسه فهل يشهد تكريمه “حضوريا“.
وفي مهرجان كان لهذا العام، حضر بناهي العرض بنفسه، بابتسامة هادئة وعيون فيها ألف حكاية. الجمهور وقف يصفق، مش بس للفيلم، لكن لرمز مش بيتهزم، مخرج كل ما تحاصره الرقابة… يرد بـ”فيلم أحسن من ألف بيان سياسي”.
“مجرد حادث”؟ بالعكس، ده تحفة فنية من العيار التقيل، واعتراف حقيقي إن الفن لسه قادر يكسر القضبان… ويخلي السعفة تحلم بالفارس الإيراني من جديد.
إقراء
كيدمان وبريانا في كان مندوبات الستات في الشاشة الفضية
غزة على السجادة الحمراء: حين تتحوّل المعاناة إلى سينما في مهرجان كان