ريم صالح لوحات الفنان البولندي أدم ستيكا
لا يخطر ببال أي قارئ لكتاب “مياه النيل: القدر والبشر” لكاتبه أحمد السيد النجار، الخبير الاقتصادي بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية؛ أن يتبادر إلى ذهنه فورًا تساؤل بديهي جدًا، ومقارنة ما فتئ النجار نفسه أن طرحها عدة مرات خلال استعراضه لقصيدة عشق لهذا الجبار الخالد. تدور تلك المقارنة والتساؤل حول ما إذا كانت مصر هبة النيل كما ذكر المؤرخ هيرودوت “هل مصر هبة النيل أم هبة المصريين؟”
مدخل النجار لهذا الطرح كينونة نهر النيل الذي وإن احتل المرتبة الأولى من حيث الطول البالغ 6820 كم، إلا أنه من أقل الأنهار من حيث الإيراد المائي. حيث يعد التاسع على العالم في الإيراد المائي بفارق كبير بين النيل وأقرب الأنهار في الترتيب، وهو نهر الدانوب الذي يفوق النيل في إيراده المائي 2.3 مرة على الرغم من صغر كل من طول الدانوب ومساحة الحوض. علاوة على طبيعة النيل المتقلبة سواء خلال العام نفسه أو خلال سنوات عدة حيث يتقلب مزاج نهر النيل ما بين فيضانات كاسحة مدمرة وما يستتبعها من أوبئة وأمراض، ومواسم الجفاف السباعية الشحيحة حيث أدى كلا الأمرين إلى ثبات عدد السكان في مصر عبر التاريخ عند الحدود الدنيا.
يناقش الكتاب الصادر عن دار الشروق قضية النيل في 245 صفحة لما لها من أهمية قصوى سواء لدول الحوض أجمع بشكل عام، أو لمصر بشكل خاص. قضية فرضت نفسها تاريخيًا، وما زالت، وستستمر مادام استمرار دول الحوض في انتهاج نفس الاستراتيجيات المتبعة سابقًا. تم تناول تلك القضية الهامة من عدة أوجه يمكن إجمالها في ثلاثة محاور:
- طبيعة النيل منذ النشأة الأولى في كلا المنبعين الاستوائي والإثيوبي، ورحلته عبر الوادي مع عرض موجز لمشروعات تنمية الحوض ثم عرض لقصة السد العالي.
- المشاريع التي أقيمت على النهر والاستراتيجيات المائية الرسمية لمصر مع المقارنة بين مشروعي السد العالي وتوشكى من حيث اتخاذ القرار وما صاحبه من إجراءات.
- العلاقات المائية بين مصر ودول الحوض تاريخيًا مع عرض للوضع المائي لدول الحوض ومستقبلها وإمكانية تنميتها وانتهاءً بقضية المياه المثارة من قبل دول المنبع مع شرح للاتفاقيات الدولية ووجهات النظر المختلفة.
كما قدم النجار جميع الوثائق الخاصة بكل محور سواء الاتفاقيات الخاصة بتوزيع المياه بين مصر ودول الحوض، والخطابات المتعلقة بإنشاء السد العالي بين مصر والاتحاد السوفيتي، ونص عقد الانتفاع الخاص بتوشكى.
يعد أهم المحاور المحور الذي تناول مشاريع النهر؛ حيث يعرض لمشروع توشكى الذي رُوِّج له باعتباره المشروع الاستراتيجي الأهم من قبل النظام المصري. فتناول هذا الجزء أهم نقاط ضعف المشروع التي تمثلت في كيفية صناعة القرار منذ البدء، وما عكسته من تخبط وانفراد ديكتاتوري بالقرار. وتم هذا دون الرجوع للدراسات المسبقة من ذوي الخبرة أمثال دكتور رشدي سعيد، إلا بعد البدء في التنفيذ من أجل تسجيل مواقف ليس إلا. مقارنة بأسلوب وطريقة اتخاذ القرار وتنفيذ مشروع السد العالي الذي اتسم بأعلى قدر من الديمقراطية والشفافية، بالرغم من اختلاف المناخ السياسي لكلا الحقبتين.
ثم استعرض مساوئ المشروع؛ حيث تمثلت إحدى أبرز مساوئ المشروع في الجدوى الاقتصادية المنخفضة، حيث أوضحت دراسات صادرة عن البنك الدولي أن العائد المتوقع من المشروع لا يتجاوز 8%، وهو معدل أقل من فوائد أذون الخزانة التي تتخطى 8.5%. بالإضافة إلى ذلك، تبرز تحديات كبيرة تتعلق بإمكانية توفير المياه وتكاليف توصيلها ورفعها، والتي وصلت إلى نحو 200 جنيه للفدان. ويعود ذلك إلى سوء اختيار مسار الترعة المكشوفة المخصصة لنقل المياه، فضلاً عن معدلات الفقد العالية نتيجة لعملية التبخر.
كما أفرد النجار جزءًا كبيرًا لمناقشة عقد تخصيص المستثمر الوحيد “الوليد بن طلال”، والتجاوزات التي صاحبت إبرام ذلك العقد، وما شاب العقد من إجحاف وظلم يتحمل مسؤوليتها وزير الزراعة يوسف والي بشكل مباشر، وجميع الأجهزة الرقابية بشكل غير مباشر. بدءًا من السعر 50 جنيهًا للفدان مع الوضع في الاعتبار أن تكلفة البنية الأساسية للفدان بلغت 11 ألف جنيه. ثم شروط الدفع والتخصيص التي تعد إهدارًا للمال العام وللثروات الطبيعية؛ حيث تم سداد 20% فقط من قيمة المشروع التي بلغت مليون جنيه مصري. وانتهاءً بشروط توفير المياه وسعر المتر الذي قدر بـ 4 قروش لكل متر للخمسة آلاف متر الأولى، ترتفع لتصبح 5 قروش بدءًا من الألف السادسة. أضف لكل ما سبق الإعفاء من جميع الرسوم والضرائب والأتعاب لمدة 20 سنة تبدأ بعد بدء إنتاج 10 آلاف فدان من الأرض المخصصة للشركة أي أنها لم تبدأ بعد. من هنا اعتبر النجار هذا العقد عقد إذعان على الحكومة المصرية أن تبادر بإلغائه وإعادة تخصيص الأرض للشباب وسكان منطقة النوبة من أجل خلق منطقة سكانية خارج حدود الوادي القديمة.
ثم تعرض لضرورة التعامل مع المشروع وحل مشاكله باتباع استراتيجية عامة تشمل مصر كلها من ضرورة دخول القطاع العام في المشروع على طريقة الدولة المقاول. حيث تقوم بالدخول في عملية الاستصلاح ثم تقسيم الأرض لوحدات صغيرة وتوزيعها على العاملين في المشروع مع تكوين مجلس إدارة منتخب وخضوع ذلك المجلس لرقابة كل من الجمعية العمومية والجهاز المركزي للمحاسبات. كذلك إعادة النظر في التركيب المحصولي في مصر ككل واستبدال بعض المحاصيل الشرهة للمياه مثل قصب السكر بمحاصيل أقل شراهة مثل بنجر السكر. كما تعرض لترشيد استخدام المياه واستبدال الري بالغمر بطرق أخرى للري والعمل على توفير بدائل أخرى لمياه النيل من أمثال استخدام المياه الجوفية ومياه الصرف الصحي المعالجة ومشاكل كل منهما.
كما قام النجار بإجراء مقارنة بين كل من مشروعي السد العالي وتوشكى سواء من حيث الإجراءات كما سبق وأشرنا إليها، أو من حيث المصلحة المتحققة والفوائد أو من حيث المضار التي تكبدتها مصر فجاءت النتيجة لصالح السد العالي الذي اعتبره النجار أول خروج حقيقي للمصريين على قدرهم المائي الغامض والنجاح في السيطرة عليه.
ثم تناول النجار في المحور الثاني الاستراتيجيات المائية المصرية ومدى ملاءمتها والتي خلص فيها إلى وجود فجوة مائية تضطرها لاستخدام مياه الصرف الزراعي المعالج ومياه البحر المحلاة والحصول على جزء من نصيب السودان في الفائض في بحيرة ناصر. حيث تشير الأرقام إلى أن الاستهلاك المائي المصري عام 1997 بلغ 67.27 مليار متر مكعب حصة مياه النيل فيها 55.5 مليار متر مكعب، ووفقًا للتقديرات ترتفع إلى 87.67 مليار متر مكعب عام 2017 قد ترتفع إلى 98.74 مليار متر مكعب إذا تم تنفيذ مشروع التوسع الزراعي الأفقي مع ثبات حصة النيل. من هنا تدخل مصر مرحلة ندرة في الموارد المائية مما يهدد أمنها واستقرارها لذا كان لابد من النظر للجنوب من أجل تطوير وتنمية الموارد المائية خارج الحدود المصرية.
الأمر الذي فرض على مصر استكمال مشاريع تنمية مياه النهر خارج الحدود المصرية، لذا وجب أن يتم النظر إلى مشروع تنمية مياه النهر بشكل متكامل حيث أن إيراد النيل البالغ 1600 مليار متر مكعب لا يتم استغلال إلا 100 مليار متر مكعب فقط من قبل دول الحوض أجمع ويفقد الباقي ما بين بخر أو تسرب أو الضياع في ماء البحر.
من هنا يجب الاهتمام بالمجرى المائي والتعامل مع نقاط ضعفه سواء في دولة المصب كالسودان مثلاً حيث يجب العمل على استكمال مشروع قناة جونجلي من أجل التمكن من استغلال مياه بحر الجبل وبحر الغزال ونهر السوباط بدلاً من الضياع في منطقة السدود النباتية ومعالجة ضعف انحدار النيل الأبيض ذاته. كذلك تنمية موارد نيل كاجيرا وحماية شواطئ بحيرة فيكتوريا من أجل زيادة السعة التخزينية عن طريق زيادة العمق، كما حدث في الماضي مع بحيرة ألبرت عندما قامت مصر بتعلية حواف البحيرة وإقامة سد أوين للتخزين المياه لصالح مصر. كذلك إقامة مشروعات لتجفيف بحيرة كيوجا التي تفقد نصف إيرادها بالبخر في المستنقعات (20 مليار متر مكعب) وتحويلها لأراضٍ زراعية لصالح أوغندا مع شق قناة إسمنتية وقنوات فرعية لتجميع السيول. ومن ضمن المشاريع التي من الممكن أن تؤدي إلى زيادة الموارد المائية معالجة معامل الانحدار بين بحيرتي إدوارد وجورج عن طريق بناء سد على قناة كازنجا لمعالجة السريان المزدوج الاتجاه المتسبب في ضياع المياه بالبخر والتسرب من بحيرة جورج وقناة كازنجا. كذلك مشروع لزيادة إيرادات نهر كاجيرا من خلال بناء خزانات صغيرة ومتعددة لتجميع المياه من مخرات السيول وتخزينها في موسم الأمطار ثم تنظيم نقلها لمجرى النهر في فترات الجفاف.
من هنا فإن تنمية الموارد الاستوائية تحقق أهداف كل من دول المنبع والمصب حيث ستوفر مياه لدول المنبع هي في أمس الحاجة إليها وخاصة في ظل معدلات نمو سكاني عالية وخاصة بعد دخول ثلاث دول من دول المنبع مرحلة الندرة النسبية للمياه (رواندا – بوروندي – أوغندا). أما بالنسبة لدول المصب فالهدف مزدوج: الأول واضح والمتمثل في توفير كميات أكبر من المياه من أجل متطلبات التنمية البشرية، والهدف الثاني يتمثل في الخروج من التقلب المزاجي للنيل الأزرق الذي يعد المتحكم الرئيسي في الإيراد المائي للنيل حيث كونه يمثل 85% من إجمالي المياه الواصلة لدول المصب، إلا أن التاريخ أثبت أن هذا التقلب ليس فقط موسميًا لكنه أيضًا السبب في دورات الجفاف السباعية علاوة على استحالة ضبطه لما يتميز به مجرى النيل الأزرق من وعورة ومعامل انحدار عالٍ جدًا يبلغ 1.5م لكل كيلومتر في المجرى الإثيوبي و1م لكل 7 كيلومتر في المجرى السوداني.
إجمالاً طرح النجار ضرورة العمل بين دول الحوض على أساس التعاون والتقارب وليس التصارع كون ذلك أجدى للجميع. فمشاريع التعاون ممكنة وليست مستحيلة لكن يقع العبء الأكبر على كاهل الشقيقة الكبرى مصر كونها الأكثر خبرة في كيفية التعامل مع النهر تاريخيًا وصاحبة مصلحة عظمى، لكن ذلك يجب أن يكون من باب التعاون وليس الهيمنة وفرض السيطرة لتجنب فتح ملفات تاريخية زرعها وتسبب فيها الاستعمار. كما طرح أيضًا المشاكل والدعاوى السياسية الحالية لدول المنبع فيما يخص موضوع إعادة التعامل مع مياه النهر وحجج كل طرف من الأطراف: دول المنبع باستثناء أوغندا ودول المصب مصر والسودان والتنسيق بين مواقفهما معًا.
يتميز كتاب “مياه النيل: القدر والبشر” بوضوح نظرة متكاملة للكاتب ظهرت في تناول الموضوع من جميع الجوانب بدءًا من رحلة النهر جغرافيًا وتاريخيًا والمشاريع المقامة على المجرى، مرورًا بعرض سخي وواضح لمشاكل النظم النهرية لمجرى النيل التي تمثل في نفس الوقت الحل للخروج من أزمة المياه القادمة حيث لا يستغل من إجمالي المياه إلا النزر اليسير الذي يقل عن 1% من إجمالي المياه الواردة للمجرى. كذلك عرض وتحليل لأهم مشروعين أُقيما على النهر توشكى والسد العالي ومساوئ ومميزات كل منهما، كما لم يغفل الكتاب عرض طرق حل مشكلة ندرة المياه سواء داخل مصر باتباع سياسات مائية وزراعية ترشيدية، أو خارجها عن طريق تنمية موارد النهر بناء على الاقتسام العادل للموارد الإضافية. كما تميز أسلوب العرض بقدر عالٍ من السلاسة والمنهجية في الطرح تمكن القارئ من استيعاب الكم الهائل من المعلومات بأقل جهد.
طرح سؤال لماذا قدم النجار القدر قبل البشر في العنوان، وعند الانتهاء من القراءة توصلت لمعنى هذا التقديم والهدف منه. تمثل السبب في خضوع سكان وادي النيل لمزاج النهر المتقلب ما بين إنعام شديد قد يصل لحد الغرق في الفيضانات العارمة أو البخل الشديد في سنوات التحاريق. وحتى المحاولات التي قام بها البشر “المصريين وباقي شعوب الحوض” عبر التاريخ اتسمت بالخضوع لذلك “القدر” والتعامل وفقًا لمقدراته. لكن الرؤية التي طُرحت في الكتاب كان من الممكن أن تعكس الوضع لو تم الرجوع لها فيما يخص السياسيات المصرية، وتمكن البشر من التغلب عليه لتروض ذلك النهر العتيد لتحقيق مصالح الجميع بدون الدخول في صراعات لا جدوى منها.
مياه النيل القدر والبشر – أحمد السيد النجار – دار الشروق