أجمل ما في مسلسل (النص) بخلاف أسماء أبو اليزيد وأحمد أمين طبعا؛ هو الباحث أيمن عثمان اللي كان سبباً رئيسياً في ظهور دراما من هذا النوع اللطيف الذي يجعلك تحترم الجهد المبذول في الصورة، ونقل روح الزمن في مصر العشرينات وبإمكانيات متواضعة. تحترم أحمد أمين وهو يفتح الطريق واسعا أمام موهبة حمزة العيلي؛ فيصل هذا الفنان الموهوب إلى المدى الذي انتظره منه جمهوره خلال السنوات الثلاث الماضية التي لمع نجمه فيها.
ولا أظن فناناً آخر غير أحمد أمين كان سيسمح لهذا الممثل أن يبدع على هذا النحو من الإحساس والتجسيد لشخصية درويش عامل المسرح البائس. أسماء أبو اليزيد، وآه من أسماء أبو اليزيد البنت المصرية اللي عايشة في بيت دعارة بيديره ويشرف عليه شقيقها! وجواها كل الطهر والجمال والطيبة والرقة والأنوثة المصرية المذهلة، رسمية اللي نجحت في النصب على النص ذات نفسه؛ كانت قادرة بلمحة واحدة من عينيها أن تُعلق قلبي وقلب حضرة الظابط علوى اللي جسده بإبهار ونعومة الولد الموهوب صدقي صخر الذي شاهدته من قبل في (ريفو) ولفت انتباهي. وها هو يشدني من قميصي ليقول لي أنا صدقي صخر يا عمو .. خد بالك بقى!. وقد أخدت بالي جدا منه ومن شاب آخر مذهل؛ هشام الشاذلي الذي جسد دور متولى القواد وشقيق رسمية. ماهذا الممثل الذي بنظرة واحدة يبيع جسد شقيقته بإريحية تامة، وبحركة واحدة يجسد الجشع والخسة! وكذلك الفتى المكلبظ الدايب في الخفة والكوميديا الرباني محمد عبد الرحمن أو زقزوق؛ اللي ورثه النص عن معلمه وأستاذه في النشل. والفتى ميشيل ميلاد أو إسماعيل عبقري المفرقات اللذيذ. ومحمد ناصر الذي قدم شخصية الظابط وحيد. والبنت المرعبة دنيا سامي أو عيشة زوجة النص التي ومن غير قصد طغت تماماً على شخصية (عزيزة) التي قدمتها سامية الطرابلسي. أما ملك النص بالمعنى الحرفي فهو همام أو الفنان يوسف إسماعيل، ولم ينافسه في مملكته سوى الفنان (باسم قهار) الذي بحثت عن اسمه طويلا بعد أن قدم شخصية الجنرال البريطاني ماكميلان باقتدار شديد.
أيمن عثمان عمل جهد كبير في البحث عن مذكرات النشال اللي كان العثور عليها متاحاً لغيره من الباحثين المشغولين بتوثيق التاريخ الإنساني المصري. لكنه باحترافية كبيرة وثقّ كل أحداث المذكرات، فإن تحدث النشال في مذكراته عن نقابة النشالين السرية؛ بحث أيمن عثمان وراء القصة وخلفياتها. وإن تحدث عن اللغة السرية أو شفرة أبناء الكار ومصطلحاتهم؛ بحث أيمن وراءها وتنقلّ بين الصحف والمجلات القديمة ليوثق بها حكايات النشال عبد العزيز النص الذي ذهب إلى الناشر حسني يوسف وطلب منه أن يكتب له مذكراته. كان حسني أفندى في ذلك الوقت 1927 قد نشر مذكرات المعلم يوسف أبو الحجاج أشهر فتوة في مصر، وسواء كان حسني أفندى قد ابتكر شخصية عبد العزيز النص وكتب المذكرات على لسانه، أو أنه نقل بأسلوبه الأدبي ما سمعه من النص؛ إلا أن أيمن عثمان لا يترك المعلومة للمصادفة ويميل إلى الرأي الأول، مؤكداً أن حسني يوسف أهدى الطبعة الصادرة في نوفمبر 1938 من مذكرات نشال إلى توفيق الحكيم وقال فيها (إلى أمير البَنان الكاتب العبقري توفيق بك الحكيم أتشرف بأن أهدي قصتي). وعند كلمة (قصتي) يؤكد أيمن أن شخصية عبد العزيز النص من خيال حسني أفندى، وإن كانت أخبار النشالين وقصصهم قد احتلت الصفحات الأولى من صحف تلك الأيام، واكتشف أيمن عثمان في مذكرات نشال أن مجلة الدنيا المصورة اهتمت منذ صدورها عام 1929 بالنشالين وحكاياتهم المنتشرة، وجاء على غلاف أحد أعدادها صورة للنشال محمد فهمى الدرستاوي المُلقب ب(الخفة).
وإن كان صدور كتاب مذكرات نشال عن دار دَوِّن منذ ثلاث سنوات تقريبا حدثا ثقافيا؛ فقد أصبح من اليوم حدثا مصريا بامتياز بعد أن تم تطوير الشخصية دراميا وأضيف إليها الكثير من عناصر التشويق التي كانت ملاعيب النص مع الإنجليز هي بطلها الرئيسي. وتحول عبد العزيز النص إلى رمز شعبي ينتصر للمصريين من مغتصبي حقوقهم حتى ولو بالنشل والنصب. فكل خطط النص التي يسميها (سآسء) كتعبير مصري عن السأسأة، والقزقزة، والمخمخة، والتفكير بمزاج؛ تحولت إلى عنصر تشويقي يجعلك تراقب الفقراء والمقهورين ينتصرون على جلاديهم بالحيلة والملاعيب التي تُعد ابتكاراً شعبياً مصريا خالصا عرفه المصريون من أيام المماليك بظهور شخصية (على الزيبق).
وها هو النُص يجدد لعبة السأسأة والتحايل بخفة دم ورشاقة إخراجية لحسام علي، ولغة مصرية تلقائية تحمل روح الفكاهة والمباغتة في إدارة الحوار شارك فيها أحمد أمين وأيمن عثمان مع الثلاثي (عبد الرحمن جاويش، شريف عبد الفتاح، وجيه صبري) في كتابة السيناريو والحوار.
وفي تصوري أن نجاح المسلسل؛ نجاح وانتصار كبير لجيل جديد من الباحثين المصريين الذين استطاعوا تحقيق الشهرة والتواجد بما يمتلكون من قدرات صحفية وبحثية تضيف إلى المنتج الثقافي وتزيده ثراءً وبهج. وها هو العمل البحثي الصحفي الجاد يضع قدما في الدراما، وعاشت مصر عاش الحرافيش كما كتب الشاعر. (جورج عزمى):
جدعان جدعان مش نص ونص..
ساعة الجد نأدى ونص..
حرافيش أيوا لكن جدعان
والمتغطى بينا في آمان.