الحُنق .. أن يكون الإنسان حانقا أى أنه على حافة الحقد، أظن كذلك ،ولست مرجعا لغويا فى تلك الحكاية ، لكن هذا ما انتابنى من احساس وأنا أقرأ فصول هذا الكتاب الصادر عن دار آفاق “كل المدن أحلام” ، فقد ذهب هذا الولد الشاعر إلى الجزيرة التى كنت أظن أن أحداً لن يسبقنى لزيارتها ،”مايوركا” التى سكنت خيالى منذ أحد عشر عاما،وجاء هذا الأستاذ المدعو “جرجس شكرى” وكتب عنها قصيدة نثرية لا تقل بهاء وجمالاً عن مجموعة القصائد التى كتبها فى وصف ومديح باقى المدن التى زارها كشاعر وليس كسائح، تتحول الجسور والقصور والثلوج والأشجار والضباب إلى لوحات يرسمها شاعر متسكع ينبش فى جدران البيوت ورائحة المكان قبل أن يقرأ القصائد ،كلّما حلّ بمدينة أو قرية نائية تجول فى الشوارع متأملاً حركة الشعوب وسلوكياتهم وملامحهم وتقاربها مع الشرق ومدى تباعد سلوكياتهم عن غيرها مما نراه فى بلادنا .
تتحول العواصم والمدن إلى أحلام بالفعل يكتبها جرجس بمشاعرها ودفئها القديم،يأخذك معه من المطار إلى المكان الذى ستقام فيه أمسيات الشعراء ، وفى سويسرا تجمعّ الشعراء فى “سلخانة” أومذبح قديم كانت ترعى فيه الأبقار وتأكل وتشرب قبل أن يجزّ القصّاب رقبتها،واصطفّ الشعراء فى المكان الذى أصبح تراثاً معماريا يزين مدينة برن ، وعندما انتقل إلى”لوزان” كانت المدينة كلها تتحدث عن فيلم آلام المسيح الذى صاحبه ضجة كبيرة وتعرض الممثل ميل جيبسون لحملة عنيفة من الكنيسة، وفى النمسا
يقضى الشاعر ليلة فى مركز كريمز الثقافى، فيكتشف أن نافذته تطل على سجن عمومى ضخم! ، وياللمفارقة حين يكون هذا السجن كان ديراً للرهبان قبل أن تشتريه الحكومة وتعيد ترتيبه ليناسب المجرمين والسفاحين بعد أن كان يلبى احتياجات الرهبان يوما ما!، مع التجهيز لإلقاء القصائد فى الصباح كان جرجس شكرى يطل فى آسى على بقايا مكان لا يعرفه من قبل ويصنع منه أسطورة تناسب ذائقة شاعر كبير ، فى السويد كان الشاعر على موعد عظيم مع الماغوط وسعدى يوسف فى احتفالية خاصة تقيمها السويد لنزار قبانى وتتخذ من مقولته” قهقة الريح للشجر “عنوانا لمهرجانها الذى يقام فى مدينة ” مالمو” الأقرب إلى الدانمارك، ورأيت فى أحلامى مدينة سان جالن الألمانية التى حكى جرجس شكرى عن كرنفالها الذى انطلق فجأة الساعة 11 و11 دقيقة ،يوم 11 نوفمبر ! إذ ظهر مئات المهرجين والراقصين فى الميادين رغم الثلج الذى غطى المدينة ، ولم يفهم جرجس ، فاستعان بالمترجم والمبدع المصرى سمير جريس المقيم فى ألمانيا وعرف أنه مهرجان سنوى استعداداً للصوم الكبير
وكل ذلك سهل ومقدورعليه وجميل وممتع ، لكن الوصول إلى “مايوركا” هو الإزعاج الحقيقى بالنسبة لى وهو سبب الحنق ،إذ وقعتُ فى غرامها بسبب قصة “غرام” شوبان وجورج صاند على شاطئها حين قضيا سويا 18 شهراً من شهد وعسل وموسيقى وجنون وانتهت علاقتهما بدراما مثيرة ، وعرفتُ الطريق إلى موسيقى شوبان بسبب هذه القصة وأقسمت أن أزورها حين أصبح ثريا ، لكن جرجس شكرى سبقنى وكتب عنها أجمل مما كنت سأكتب ، والكتاب فى مجمله قصيدة ممتدة تنسج الجغرافيا مع فنون العمارة وثقافات البشر، ليطرح السؤال المهم:ماذا فعلنا بتراثنا الحضارى والمعمارى مقارنة بكل هذه المدن التى تعيد ترميم سلخانة لتصبح مزارا سياحيا وساحة للشعر والفن!، تلك الفكرة الرئيسية التى بدأها جرجس شكرى فى مقدمة كتابه وحتى السطر الأخير فى رحلة جعلتنى أتعجب من حفاوة أوربا بشعرائنا ..وأستغرب التقليل من حجم شعرائنا بقصد أو عن غير قصد، عموما،رغم الحنق الذى حدثتكم عنه بسبب زيارة جرجس شكرى لجزيرة مايوركا تلاشى تماما أنا مستمتع بالتجول فى كل هذه المدن التى تكشف أسرارها مع شاعر موهوب وكبير جدا،وحتى أؤكد لك تصالحى مع مسألة ماريوركا،فإننى أقدم لك جولة سياحية عن تلك الجزيرة يمكنك الاطلاع عليها لو شئت ذلك فى ترجمان الأشواق ،وهى ترجمة نشرها الكاتب الكبير حلمى مراد من سلسة كتابى وبترجمة لطيفة قام هو بها عن الرحالة الكندى “إيفاليز ووريو”
“مايوركا” جزيرة الحب والأحلام
اقرأ أيضًا:
شركة هالة زايد تطيح بأحلام مجدى الجلاد فى الجنسية!
صبرى السيد ..العرّاب يعود للقصيدة