ريم صالح
في زمن كانت فيه الحروب تُخاض بالسيوف والرماح، كان المحاربون يهتفون أشعارًا حماسية لرفع معنوياتهم. أما اليوم، فقد تطورت الأمور قليلاً – أو كثيرًا – حيث تستخدم إيران ترسانة ثقافية كاملة في صراعها مع إسرائيل، من الأغاني الشعبية إلى الآيات القرآنية، مرورًا بالشعارات والرموز التي تحمل في طياتها رسائل أعمق من ظاهرها.
“يا علي يا علي”: أغنية أم نشيد حرب؟
لعل أشهر هذه الأدوات الثقافية هي أغنية “يا علي يا علي” التي تردد في المظاهرات والمسيرات الإيرانية. وهنا نتساءل: هل كان الإمام علي يتوقع أن اسمه سيُردد يومًا في صراع جيوسياسي معقد؟ الأغنية، التي تبدو للوهلة الأولى كأنها مجرد نشيد ديني، تحولت إلى رمز للمقاومة والتحدي، حيث يُرددها المتظاهرون في شوارع طهران وغيرها من المدن الإيرانية كتعبير عن الولاء للنظام ومقاومة “الأعداء”.
إن استخدام هذه الأغنية ليس مجرد صدفة، بل استراتيجية مدروسة لربط الصراع الحالي بالتاريخ الإسلامي والشيعي، مما يضفي عليه طابعًا مقدسًا ويحشد المشاعر الدينية لكل المسلمين من كل الفرق والطوائف لخدمة الأهداف السياسية. فالأغنية تحمل في لحنها البسيط قوة تعبوية هائلة، تشبه إلى حد كبير قوة الصاروخ الذي يطلق من الأرض ليصل إلى السماء – أو إلى قلوب المؤمنين.
الشعارات: عندما تصبح الكلمات أسلحة
وإذا كانت الأغاني تخاطب المشاعر، فإن الشعارات تخاطب العقول – أو على الأقل تحاول ذلك. الشعارات الإيرانية في هذا الصراع ليست مجرد عبارات عشوائية، بل رسائل مشفرة تحمل معاني متعددة الطبقات. فالشعار الذي يبدو بسيطًا على السطح، يحمل في باطنه إشارات إلى منظومة هجومية ثلاثية الأبعاد لم تُستخدم بعد – كما لو أن إيران تقول لأعدائها: “هذا مجرد مقبلات، والوجبة الرئيسية لم تأت بعد”.
هذا النوع من الرسائل المبطنة يذكرنا بفلسفة الشاعر الذي قال حبا يقصد به هجاء “فلا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطلي به القار أجرب”. الفرق أن شعراء الجاهلية استخدمو الاستعارة والكناية، بينما إيران تستخدم الشعارات والرموز البصرية.
خامنئي والآية الكريمة: عندما يصبح القرآن سلاحًا إعلاميًا
وفي قمة هرم هذه الاستراتيجية الثقافية، نجد المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي وهو يستشهد بالآية الكريمة “نصر من الله وفتح قريب”. هنا نصل إلى ذروة الذكاء – أو المكر – السياسي، حيث يتم توظيف النص المقدس لخدمة أهداف دنيوية بامتياز.
الآية، التي نزلت في سياق تاريخي محدد، تُستخدم اليوم كنوع من “البيان الصحفي الإلهي” إذا جاز التعبير. فخامنئي، بدلاً من أن يقول صراحة “سننتصر على إسرائيل قريبًا”، يترك القرآن يتحدث عنه، مما يضفي على موقفه طابعًا روحانيًا ويجعل من الصعب على خصومه انتقاده دون أن يبدوا وكأنهم ينتقدون النص المقدس نفسه.
سيمفونية الحرب الثقافية
إن ما تفعله إيران ليس جديدًا في التاريخ، لكن الجديد هو الطريقة المتطورة والمنهجية التي تستخدم بها هذه الأدوات. فهي لا تكتفي بأداة واحدة، بل تنسج سيمفونية كاملة من الأغاني والشعارات والاستشهادات الدينية، تهدف إلى تشكيل وعي جماهيري وتحشيد الرأي العام الداخلي والخارجي وإرسال رسائل مشفرة للأعداء والحلفاء على حد سواء.
وهنا تكمن عبقرية هذه الاستراتيجية: فالأغنية الشعبية تصل إلى قلوب البسطاء، والشعار السياسي يخاطب المثقفين، والآية القرآنية تلتف حول أعناق المؤمنين كسلسلة من ذهب لا يمكن رفضها. وهكذا تضمن إيران أن رسالتها تصل إلى جميع فئات المجتمع، من الطفل الذي يردد الأغنية دون أن يفهم معناها السياسي، إلى الشيخ الذي يومئ برأسه موافقًا عند سماع الآية الكريمة.
الفن في خدمة السياسة: درس في الذكاء الاستراتيجي
ما يحدث هنا يؤكد أهمية الفنون والثقافة في الصراعات المعاصرة. فبينما تركز الأنظار على الأسلحة والصواريخ والمعاهدات الدولية، تعمل إيران بهدوء على جبهة أخرى لا تقل أهمية: جبهة القلوب والعقول. وهذا درس مهم لكل من يريد أن يفهم طبيعة الصراعات في القرن الواحد والعشرين.
فالحرب الحديثة لا تُخاض فقط في ساحات القتال، بل في عقول البشر وقلوبهم أيضًا. والذي يستطيع أن يسيطر على هذه الساحة الثقافية، يضمن نصف النصر على الأقل. وإيران، يبدو أنها فهمت هذا الدرس جيدًا، حتى لو كان الثمن هو تحويل الأغاني الشعبية إلى نشيد حرب، والآيات القرآنية إلى شعارات سياسية.
عندما تصبح الثقافة سلاحًا
في النهاية، ما نشهده اليوم هو نموذج واضح على كيفية استخدام الثقافة كسلاح في الصراعات الدولية. إيران لا تحارب إسرائيل بالصواريخ فقط، بل بالألحان والكلمات والرموز أيضًا. وهذا يذكرنا بقول الشاعر العربي: “جراحات السنان لها التئام، ولا يلتام ما جرح اللسان”.
فالأغنية التي تُردد اليوم في شوارع طهران قد تكون أكثر تأثيرًا من الصاروخ الذي يُطلق من جنوب لبنان. والآية التي يتلوها خامنئي قد تحرك مشاعر الملايين أكثر من أي بيان سياسي. وهكذا تؤكد التجربة الإيرانية أن الفنون ليست مجرد ترفيه أو زينة، بل أدوات قوية قادرة على تشكيل الواقع وتغيير مجرى التاريخ – حتى لو كان ذلك بطريقة لم يتوقعها أحد.