ريم صالح
في كل عصر، وبلغة مختلفة، كانت الرايات تقول ما لا تقدر عليه الخطب:
من التوحيد إلى الثورة، من الثأر إلى السيادة، ومن الدين إلى الدولة.
- الأبيض للصفاء… أو للاستسلام.
- الأحمر للثأر… أو للفوضى.
- الأسود للحزن… أو للمجد.
- الأخضر للجنة… أو للخلافة.
- والصليب، أو الهلال، أو النسر… رموز تُزرع في القلوب قبل أن تُرفع فوق السيوف.
في مساءٍ غائم فوق قبة مسجد جمكران في مدينة قم، رفرفت راية حمراء. لم تكن قطعة قماشٍ عادية، بل إعلانًا غير منطوق لحالة استنفار، حزن، وثأر. كتب عليها: “يا لثارات الحسين“.
حين ترفع إيران الراية الحمراء، كما فعلت بعد اغتيال قاسم سليماني، أو بعد الهجمات الإسرائيلية الحديثة داخل أراضيها، فهي لا تكتفي بالحزن… بل تدق طبول الانتقام. ففي الثقافة الشيعية الاثني عشرية، تعني الراية الحمراء دمًا لم يُثأر له بعد، وظلمًا لم يجد له قضاء.
ترفرف فوق مراقد الشهداء، ولا تُنزل إلا بعد القصاص.
هي أكثر من مجرد رمز، إنها وعد… وقد صدقت إيران وعدها!
من بدر إلى بغداد… ثم داعش .. تحت الراية السوداء
اتخذ النبي محمد ﷺ راية سوداء في المعارك أولى في صدر الاسلام، يُكتب عليها اسمه. حملها صحابته في بدر وأُحد، وكانت تشير إلى مركز القيادة وتوحد الصفوف.
ثم اتخذتها الثورة العباسية شعارا، ورفرف السواد فوق قصور بغداد. فاللون الأسود مثّل الحداد والثأر والبيعة لخلافة جديدة.
لكن التاريخ لا يحفظ الرموز من التحريف…
فقد عادت الراية السوداء مجددًا في يد جماعات دموية لا ترتوي إلا بكحل دموع الثكالى مثل “داعش”، فاستخدموها لتبرير القتل، سوداء تحمل جملة لا إله إلا الله.. والله منهم براء.. لذا بينما البداية كانت في يد نبي الرحمة؛ لكن النهاية لم تعد تعني ما كانت تعنيه.
الراية خضراء.. لون الجنة ورمز الخلافة
في زمنٍ سابق، وعلى أرضٍ مختلفة، كانت الراية الخضراء تحمل كلمات التوحيد: “لا إله إلا الله”.
يُعتقد أن أول من استخدمها كان الإمام علي بن أبي طالب، رابع الخلفاء الراشدين، خلال معاركه، وأشهرها صفين. حين كانت الراية تعني الحق والعدل، وظلت تُرفع في وجه البغي.
ثم لاحقًا، تبناها الفاطميون حين أسسوا دولتهم في شمال إفريقيا ثم مصر، لتصبح راية الخلافة الشيعية المنافسة للعباسيين. وإلى اليوم نراها في احتفالات الصوفيين في مصر ترفرف لتحمل معاني الحب الإلاهي.
وفي الفترات اللاحقة، تحولت الراية الخضراء إلى رمز للإسلام نفسه، فتبنتها دول عربية عدة، منها المملكة العربية السعودية، حيث نُقشت عليها الشهادتان وسيف العدل.
رايات الثوار والخصوم: الأبيض، الأحمر، والتمرد
كل خلافة نسجت ألوانها كما تُنسج الرايات في الريح؛ فبنو أمية اختاروا الأخضر شعارًا، لون الأرض والنماء، بينما رفرف علمهم أسود اللون، نقش عليه اسم الخليفة بخيوط بيضاء، كأنما هو ظلال على ضوء، يزاوج بين الصرامة والسمو. أما العباسيون، فقد تدرّعوا بالسواد، لا كلون فحسب، بل كهوية تنطق بالغضب والثأر، وبالانتماء لبيت النبوة.
أما الفاطميون، فقد كانت رموزهم للملك لا تُرى إلا في حضرة الهيبة؛ مواكب مهيبة تتقدّمها المظلة والتاج، ويتلألأ فيها رمحان طويلان مغشيان بالذهب، يُعرفان بـ”لوائي الحمد”، تعلوهما رايتان من حرير أبيض مرقوم بالذهب، لا تُنشران بل تُلفّان، كأنما تحملان سرّ الملك مختومًا لا يُفصح عنه إلا في ساعة الجلال. يسبقهما رمحان آخران تعلو رؤوسهما أهلة ذهبية، تتدلّى منها شرائط ديباج صفراء وحمراء، تتمايل كالخيوط المشتعلة في فم الريح.
ومن خلف هذا السرب، تمتد رايات النصر، واحد وعشرون علمًا من حرير، مكتوبٌ عليها: {نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}، يحملها صبيان القصر، في زهو لا يخلو من قداسة.
أما الخوارج، فكان لهم لون لا يُخطئه قلب: الأحمر، دم الثورة المتجدد، لا يعرفون مهادنة، ولا يسيرون إلا على حدّ السيف. وفي السودان، حين نهض محمد أحمد المهدي، حمل راية سوداء كتبت عليها الشهادتان، كأنها سورة من النار، أعلن بها ثورة دينية واجتماعية، جمعت المهمّشين والفقراء، وزلزلت عرش الخلافة العثمانية في الجنوب.
وفي السودان، أواخر القرن التاسع عشر، حمل محمد أحمد المهدي راية سوداء يتوسطها هلال أبيض يشقّه رمح عمودي، في رمز بصري يجمع بين الإيمان والجهاد. لم تكن مجرد راية، بل إعلان عن ثورة دينية واجتماعية ضد الحكم العثماني، التفّ حولها الفقراء والمهمشون، ورفعوها باعتبارها راية المهدي المنتظر.
رايات الحروب الصليبية: الصليب يرفرف على سيوف الغزو
على الجهة الأخرى من المتوسط، وفي زمن الحروب الصليبية، لم يكن للرايات وظيفة رمزية فقط، بل كانت أداة تعبئة. فالصليب الأحمر على خلفية بيضاء كان الراية الرسمية لمعظم جيوش الفرنجة، خاصة الإنكليز والفرنسيين، بوصفه رمزًا للحرب المقدسة. وتحول لاحقا ليصبح رمزا لهيئة الصليب الاحمر المعنية بانقاذ البشرية، يالا المفارقة!!.
هناك أيض فرسان الهيكل حملوا راية نصفها أبيض ونصفها أسود، يتوسطها صليب أحمر كبير، ترمز إلى النقاء في القلب والسواد في وجه العدو، وإلى الدم المراق في سبيل العقيدة. وفي الكنائس، بوركت تلك الرايات قبل القتال في الحروب الصليبية، حيث يُنظر لها كعلامة “مقدسة” تضمن النصر. وحين كانت تسقط في المعركة، كان الفرسان يعتبرون ذلك إيذانًا بالهزيمة الإلهية، لا العسكرية فقط.
نسر نابليون وألوان الثورة الفرنسية
في القرن التاسع عشر، ظهرت رايات نابليون بونابرت، لتحمل وجهاً جديداً للسلطة. وعلى تلك الرايات، خُطّ النسر الإمبراطوري، مستوحى من روما القديمة، كرمز للقوة والسيادة. كانت الراية تتزين بألوان الثورة الفرنسية: الأزرق، الأبيض، والأحمر. وعليها شعارات مثل “حرية، مساواة، أخوّة”، لتُصبح رمزًا للحداثة والقومية الجديدة.
حين تتكلم الرايات… تصمت الدبلوماسية.
فهي لا تهمس، ولا تشرح… بل تُرفع فجأة، وتكتب التاريخ بلونٍ واحد:
إما النصر…
أو الدم.