لوحة (الحنان) للفنان حامد ندا
تمددّ إيفان على سريره متعباً باكيا محدقا فى السقف وقال بنبرة ألم :(عندما يخونوك فكأنهم قطعوا ذراعيك .. نعم تستطيع مسامحتهم ،لكنك لن تستطيع عناقهم ) وأعجبته العبارة التى خرجت من قلبه فأسالت دموعه أكثر، وراح يفكر فى مصيره بعد أن أصبح وحيداً وهو الذى كان مهيباً قويا يتجمع الكل حوله ويسعى الكل إلى رضائه!.
وإيفان هو بطل رواية تولستوى البديعة ( موت إيفان إيليتش) وما حدث مع إيفان شىء مذهل ،وأنت إن ذكرت اسم تولستوى قال محدثك ” بتاع الحرب والسلام ” وهذا صحيح لكنه بتاع ” موت إيفان إيلتيش” فهى الرواية الأمتع حتى من رائعته ” آنا كارنينا ” التى يذكرها كل من يعرف تولستوى أيضا، هكذا تُصنع الدراما العظيمة من حدث عابر وسهل وبسيط : سقط القاضى الشامخ إيفان إيلتيش وهو ينظف نجفة البيت فانكسرت قدمه! وتطور الأمر حتى أجلسه الكسرالبسيط على سرير وأطباء يدخلون وممرضات يخرجن، ومداولات تتم ومشاورات تدور،وهو لا يكاد يتصور أن سقوطا تافها من على سلم خشبى سينال منه ومن هيبته بهذا الشكل المهين!، حدث غاية فى البساطة يجعله يتسول العطف والحنان ويظل فريسة للوحدة والألم الذى يأكل جسده وهو يرى نفور الأصدقاء وتباعد الأقارب وبقاء الحائط المواجهة له وهو مكسور على السرير يسترجع حياته وقراراته التى أتخذها على منصة القضاء زوجة إيفان، براسكوفيا، لا تختلف كثيرا عن زملائه! فقد بدأت تشيح بوجهها عنه هى الآخرى! وبدأ يفكر فى علاقتهما ليكتشف أنها لم تحبه يوما ، وأن عدم اكتراثها بما حدث له يؤكد أنه عاش فى وهم كبير حتى يقرر منعها من الدخول عليه !،وفى الصباحات والمساءات التى تمر عليه وتشبه بعضها بلا تغيير أو تجديد كانت الأفكار فى رأسه تعصف بروحه ، فكلما تأمل تصرفات الأصدقاء وقارن بين تخاذلهم وبين شهامة خادمه الذى يحنو عليه تسارعت دقات قلبه حتى يكاد يسمعها كطبول تهرس أعصابه ، حتى يموت مكانه!..
كتب تولستوى تلك الرواية القصيرة بعد أن هاجت روحه كعادتها فى ليالى روسيا الباردة فراح يصرخ : “رأسى يؤلمنى .. أنا آرى الموت أمامى “، وبعد أن عاد إليه الهدوء النسبى الذى أعقبته عواصف درامية مهولة ،كتب موت إيفان كأنما يرى حفيف الرحيل ،وكأنما يرى حياته المثيرة التى عاشها فقد كانت رواية إيفان يليتش تلخيصا روائيا لمسيرته ،فقد ولد في قصر مكون من 42 غرفة ، تحوطه أسباب الترف البالغ والثراء العريض، لكنه في أواخر حياته تنازل عن جميع أملاكه وضياعه ، ومتاعه الدنيوى، إيمانا بمثله العليا التى عاش ينادى بها… ثم مات لا يملك درهما ، في محطة سكة حديد صغيرة مقفرة، لا يحيط به غير عدد من الفلاحين!، وتنكر له الجميع بما فيهم زوجته صوفيا التى لم تحتمل تصرفاته عندما قرر التنازل عن ممتلكاته للفلاحين والمزارعين وتوقف عن الكتابة وارتدى الزى الخشن وراح يصنع أحذيته بيديه،ويتناول طعامه فى آوانى من الخشب!وتحول إلى قديس يتجمع البشر حوله من كل مكان حتى أن غاندى كان من جلساء تولستوى ،الذى تجرع كأس التعاسة فى بيته فقرر فى ليلة 21 أكتوبر سنة 1910 – وهو في الثانية والثمانين – أن يهرب! أن يسير فى الظلام بعيداً عن هذا البيت البارد الغارق فى الأكاذيب .. وأسلم العجوز جسده الهزيل للريح والظلام حتى بالتهاب رئوي حاد ، قضى على حياته بعد أحد عشر يوما، فلفظ أنفاسه في “كشك” محطة سكة حديد صغيرة ،وليس حوله غير ابنته ، وأصدقائه الفلاحين .. ومصورى الصحف .