المرأة والقط للفنان حامد ندا
طموحى أن أغرس موتى فى مسام الورق ،كتب ياسر الزيات هذه العبارة كمدخل إلى ديوانه ( أحسد الموتى)،ماهذا الطموح الذى يجعل شاعراً يسعى إليه ؟ وكيف يغرس موته فى مسام الورق؟!، وقرأتُ الديوان الصغير بقصائدة القصيرة وشممتٌ رائحة موت القبلات القديمة ورأيت تساقط الذكريات وذبول الوردة ،واندهشت لصحوة (الميت) الذى يرى بعينيه الجديدتين كيف خانوه وباعوه ومضغوا لحمه وبصقوا فى الطبق الذى أطعمهم منه ، وابتسموا وهم يترحمون على روحى وروح الشاعر ياسر الزيات :
وفقا لحتمية تاريخية
سيصاب قلبى بآلام حادة
وعندما يصرخ يقفز جسدى
متجاوزا الحياة
عندها سأكون قد تعلمت ترويض الآلام .
امرأتان ورجل
وترويض الآلام هذه هى المسمار الذى تتحرك عليه قصائد الديوان الصغير جدا والمؤلم جدا، هل سمعتم عن آلام تم تسكين وجعها وهى نائمة فوق مسمار؟!.
أكتب لكى أتذكر أننى حاولت أن أبكى
لكننى فشلت
أكتب لأننى مريض بخدغة قديمة
ولأننى سأكون مريضا بخدعة أخرى
عندما أموت
هناك سأتأمل الموت
سأصادق قتلى كثيرين لم أرهم فى حياتهم
وربما أحب ميتة جميلة كانت تحب ميتا
سأموت هناك: من السهل أن يحدث ذلك
وقد يصعب دفنى ـ إلى الأبد
لن أكون ميتا عاديا بالطبع
لأن لى زوجة،لن تكون قد ماتت
ستبكى علىّ.
عموما ها هى الروح قفزت والجسد سيبدأ رحلة البحث عن طريقة للتعايش تحت التراب، فالقصائد التى سبقت هذه اللحظة كانت تمهيداً للذوبان الأخير:
كدتُ أنسى نظارتى فى الحياة . يا للمصيبة ،كيف كان بإمكانى الآن أن أرقب هذا الذوبان؟! وحرصت ـ أيضاً ـ على الإتيان بقليل من النار،فمن يضمن تقلبات الطقس تحت التراب؟!وأصدقائى الجدد هؤلاء: كم هم صامتون وأقوياء،يستحقون التحية .الورق ـ كذلك ـ ضرورى هنا،فإن رسائل الموتى مفيدة جدا لأحبائهم ،أو هكذا يعتقدون. ساعتى نسيتها ـ عامدا ـ تحت الوسادة ،والحذاء علقته مقلوبا على باب القبر ،نعم هناك من يحسد الموتى؟.
ولا أعرف كيف وصل طموح الشاعر الذى تمناه إلى هذه الدرجة من التحقق فكأنما مات الشاعر بهدوء وفى مشاهد متتالية حتى وصل إلى رائحة التراب الذكية ، لكنها الآلام التى تطاردنا والتى نظن أن تسكينها وترويضها النهائى سيتم هنا تحت هذا التراب ، لكن الشاعر اكتشف شيئاً آخر:
فى الموت يحتفظ الإنسان بآلامه
الآلام نفسها تتكرر
وتتخذ صفات تاريخية
لذا ، وبما إن الموت لا يصنع الراحة ولا يذهب بالشاعر إلى الطمأنينة المرجوة فإن نهر الذكريات سيتدفق وستظهر الحبيبات القديمات متشحات بالنسيان حتى للذكريات!، يا لها من مأساه تدفع الشاعر لكتابة النص الأطول بين قصائد الديوان ( بعد أن أنتهى كل شىء) وهو عنوان يصلح قصيدة مستقلة بجمالها ، لكنه سيكون مجرد عنوان لتفاصيل تكتب نفسها فى ثمان مقاطع قصيرة جدا ، سأختار لك منها بعض المعزوفات التى تنّز بالألم كتبها شاعر ميت إلى حبيبته:
وضعت يدى على خدك الأيمن
فسالت من عينيك شوارع قديمة
ووضعت شفتى على جبينك
فمشيت فى هذه الفجيعة
كلما تنقلت من موضع إلى آخر
فى هذا الجسد الشقى
أرى مصيرى
من أين تأتى الرحمة ؟!
لا أعرف كيف غاب عنى كل هذا الجمال الذى يسيل من ديوان صغير صنعه أسطى كبير على نار هادئة وتركه سنوات يتعتق ويتخمر وينضج حتى تأكد من جودة النبيذ،الأسطى لم يترك الديوان مكشوفا أو معرضا للتغيرات الجوية واللغوية ، لكنه احتفظ بطزاجته من منتصف التسعينات وذيلّ كل القصائد بهذا التاريخ، ويبدو أنه فتح الزجاجة واطمأن أخيرا إلى الميت الذى تركه بين الصفحات وتشمم رائحة الموت فى مسام الورق ووجد نفسه مازال ميتا ميتة جيدة ،فقرر إصدار الديوان فى 2008 أى بعد مرور أكثر من عشر سنوات على تجربة الموت بعينين مفتوحتين!.
جاء ياسر الزيات القاهرة آواخر الثمانينات وسريعا صنع اسما كبيراً ،كان يداً امتدت لعشرات من أصدقاء الجامعة، وتسّيد المشهد الشعرى مع كبار شعراء الثمانينيات وقدم تجارب صحفية يشيب شعرك رأسك إن ذكرتها لك ، ومع ذلك .. ورغم ذلك .. وبينما كل ذلك يحدث ، احتفظ ياسر الزيات بأسرار الموتى .