إن كان الدكتور فوزي الشامي في كتابه (شوبان على ضفاف النيل) قد ذكر كيف كان للأرمن دور كبير في دخول البيانو إلى معهد الموسيقى في مصر؛ فإن حجم الوجود الأرمني في الفن المصري من تمثيل وإضاءة وموسيقى تصويرية واستديوهات تصوير تجاوز حدود البيانو بكثير. ولكن قبل أن تندهش من حجم الوجود الأرمني في مصر عليك أولاً أن تعرف أن مصر استقبلت أفواجاً أرمنية تلو أخري نتيجة مذابح الأتراك الشهيرة. ففي عامي 1894-1896، استقبلت مصر أكثر من 2000 لاجيء، ولم يقتصر الأمر علي هذا فحسب، بل أصبحت مصر مركز ثقل في ميدان القضية الأرمنية حيث أصدرت النخبة الفكرية الأرمنية طائفة من الصحافة بالإسكندرية والقاهرة التي نددت بالمذابح والاضطهادات والملاحقات العثمانية. وجاء أقوي رد فعل علي مذابح (أضنة) من مصر حيث هبت النخبة المصرية وندَدت بهذه المذابح وبمقترفيها، لا سيما كتابات مصطفى لطفي المنفلوطي وأحمد لطفي السيد. وعلي المستوى الديني، خرج من الأزهر وشيخه الإمام سليم البشري أقوي ردود الفعل متجسدة في فتوى أدانت بشدة ما اقترفه النظام الحاكم في الدولة العثمانية من مذابح ضد المسيحيين باسم “الإسلام”.
وفي كتابه (الأرمن في مصر 1896ـ1961) يقدم المؤرخ المتخصص (محمد رفعت الإمام) جوانب مدهشة عن هؤلاء الهاربين من الموت ليملأوا مصر بهجة ونوراً. فقد اهتم المهاجرون الأرمن بالموسيقى والغناء والسينما والرقص، وذابت أرواحهم مع مصر، ولم يفكر المصريون يوماً في جنسية أهل الفن والإبداع؛ فمن سيشغل نفسه بتلك التفاصيل وهو يشاهد اللؤلؤة الرائعة ” نيللى ” وهى تحفر اسمها في الوجدان ؟ ومن سيبحث عن أصل الطفلة المعجزة ” فيروز” أو المبهجة ” لبلبة “؟ التي كان اسمها صعبا على النطق “نينوشكا مانول كوباليان” حتى شاهدها العبقري المصري أبو السعود الأبياري فأطلق عليها هذا الاسم الذي يلخص تلك العفريتة والمعجونة بالخفة.
أما نيللي ملكة الإستعراض والفوازير فتكفي دليلا قاطعا على هذا الذوبان المصري الخالص. فمن يمكنه أن يسأل : من أين جاء كل هذا الجمال ؟ جاء من هنا من أرضنا التي عشقت روح من عشقها وذاب في نيلها.
ومن السبعينات وحتى اليوم .. مازالت نيللي في الوجدان مع المخرج المبدع فهمي عبد الحميد وقرارهما تقديم فوازير رمضان بشكل جديد يخلط بين الرسوم المتحركة والاستعراضات. وفي بداية الثمانينات تم تطوير فكرة الفوازير بعد التعاون مع الشاعر والكاتب صلاح جاهين لتقدم نيللي مع فهمي عبد الحميد فوازير “عروستي” عام 1980 وفوازير “الخاطبة” عام1981.
أما “نينوشكا مانول كوباليان” التي أصبحت (لبلبة ) فقد ظهرت لأول مرة على شاشة السينما في فيلم “حبيبتي سوسو”، حيث لاقت قبولاً واسعاً فكونت ثنائيا متميزاً مع الفنان “أنو وجدي” ثم انطلقت في الأدوار الاستعراضية: (عصابة حمادة وتوتو، قاضى الغرام، رحلة شهر العسل، أربع بنات وضابط، المليونير المزيف، حكايتي مع الزمان، في الصيف لازم نحب، البعض يذهب للمأذون مرتين، احترس من الخط، محطة الأنس، الشيطانة التي احبتنى..) وكان العبقري “عاطف الطيب” قد أعاد اكتشافها في فيلمي “ضد الحكومة” و”ليلة ساخنة” الذي فازت عنه بالعديد من الجوائز.
الطفلة المعجزة فيروز كان اسمها الحقيقى قريبا من اسم شهرتها “بيروز أرتين كالفيان”، وهى المعجزة التي لم تعرف الساحة الفنية بديلاً عنها. قدمها الفنان الراحل أنور وجدي، وقام بتدريبها على الرقص والغناء وأنتج لها أول أفلامها “ياسمين”، وبعد ذلك “دهب” بعدما أختار لها اسم فيروز، ونجح الفيلم بشكل كبير.
ومازال نهر أنوشكا يجرى حتى اليوم، فاسمها الحقيقى “قرتانوس جاربيس سليم” بدأت حياتها المهنية من خلال العمل كموظفة في شركة استثمار أجنبية. ثم اتجهت للعمل كمطربة إعلانات حيث فُتحت الإذاعة والتلفزيون أبوابها للفنانة الشابة التي سجّلت أول أغانيها لبرنامج تعليم اللغة العربية من إخراج “فهمي عبد الحميد. ثم أصدرت مجموعة من الألبومات منها تيجي نغني، وعلى الرغم من تميز أنوشكا في الغناء إلا أن موهبتها لم تتوقف على الغناء؛ فشاركت أيضاً بالتمثيل في عدد من الأعمال السينمائية من أبرزها فيلم السيد كاف ومن أطلق هذه الرصاصة.. ومازال النيل يعزف لكل مكان في الأرض سيمفونية المحبة والفن.
للمزيد
مارسيل ومشيرة وعائشة وابتهاجاليهودى الذي علم المصريين البيانو