إن كنت تريد إجابة سريعة، فقد حدث ذلك فبراير عام 1940 عندما بدأت الأرمينية (نيفارت داماديان) تنظم أمسيات لتلاميذها لتدريس البيانو،، لكن المناخ الذي أتاح ذلك يحتاج منك بعض الوقت للفهم، ففي فترات كثيرة من التاريخ وقعت كل من مصر وأرمينيا تحت حكم دولة أو إمبراطورية واحدة كبرى في نفس الوقت مثل (فارس وروما والدولة العثمانية)، وكان ذلك أهم أسباب سهولة حركة الانتقال بين البلدين. ولما كانت أرمينيا بيئة طاردة للسكان من الناحية الجغرافية، ومن الناحية السياسية المضطربة دائماً؛ فقد توالت الهجرات الأرمينية منذ القدم على منطقة الشرق الأدنى، وإلى مصر أيضاً التي ظلت هجرة الأرمن إليها مستمرة طوال القرن التاسع عشر، فمن المعروف أن مصر تُعد منطقة جذب بشري على مدار تاريخها الطويل.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر أرسل الوالي محمد علي بعض أبناء الأرمن العاملين في خدمته ضمن البعثات التعليمية إلى الدول الأوروبية، بهدف تكوين جهاز من الموظفين المخلصين للإسهام في تنفيذ طموحاته بتحويل مصر إلى مصاف الدول الحديثة بأسرع وقت ممكن.
وتقول معظم الدراسات التاريخية أن الجالية الأرمينية تعد من أقدم الجاليات الأجنبية في مصر، ومن أنشطها وأشهرها. فقد حققت الجالية الأرمينية – مع أنها من أصغر الجاليات الأجنبية- تأثيرا في مجالات الاقتصاد والإدارة والسياسة. كما ظهر تفوقهم في مجالات الموسيقى والمسرح والفنون الجميلة، التي كان لهم فيها دور كبير. وكان حكام مصر خاصة سعيد وإسماعيل وتوفيق؛ يستدعون عدداً من الموسيقيين الأرمن المشهورين في الأستانة للعزف في قصورهم، كما أخذت الفرق المسرحية الأرمينية تتوافد إلى مصر من الأستانة لتقديم عروضها الفنية منذ أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر.
وبنظرة سريعة في مجال الموسيقى، وخاصة ما يحيط أجواء تعليم البيانو وعزفه، تعد الأرمينية (نيفارت داماديان) المولودة عام 1910 من أوائل معلمي البيانو في النصف الأول من القرن العشرين في مصر، حيث درس على يديها عدة أجيال متعاقبة، وأصبح من بينهم عازفون مهرة ومتميزون.
أما بالنسبة إلى نشاط السيدة (نيفارت داماديان) الفني فقد قدمت أول حفلاتها في مارس 1938 في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية، وسط القاهرة. كما قدمت العديد من الحفلات التي المسجلة في الإذاعة المصرية في القاهرة والإسكندرية، وكانت برامج الحفلات التي تقدمها تشمل أعمالاً لكل من ( بيتهوفن، وموتسارت، وشوبان وغيرهم). إلى جانب نشاطها الواسع كعازفة وجدت ذاتها أكثر في المجال التربوي، فوهبت نفسها لتدريس البيانو منذ أربعينيات القرن الماضى.
كانت نيفارت داماديان تنظم أمسيات لتلاميذها، بدأتها في فبراير عام 1940 واستمرت سنوياً على مدار 23 عاما. كانت أول أمسية في منزلها، وبعد ذلك من عام 1941 حتى عام 1958 كانت تقيمها في القاعة الشرقية بالجامعة الأمريكية. وبين عامي 1959 و1962 في قاعة نيكيان في النادي الفني الأرمني، وقد اشترك في تلك الأمسيات 138 تلميذاً وتلميذة ، منهم 115 من الأرمن، و23 من جنسيات أخرى، وكان معظمهم يقدمون في أمسياتهم أعمال شوبان بشكل خاص. ولما كانت تلك الأمسيات تعد الوحيدة في نوعيتها واستمرارها في مصر، فقد خلقت نوعا من الحماسة في الدوائر الموسيقية وجذبت انتباه النقاد الفنيين لتدريس البيانو في المعهد القومي العالي للموسيقى/ الكونسرفتوار. بناء على دعوة من عميد المعهد آنذاك أبو بكر خيرت.
وبجانب نيفارت داماديان ظهرت بعض الأرمينيات اللاتي قمن بتدريس البيانو، مثل تاكوهي أراميان، وأليس مانوجيان، وزابيل كيليجيان درويشيان التي كانت تنظم حفلاً سنويا لتلاميذها، فضلا عن تدريس البيانو منذ عام 1960 في الكونسرفتوار.
ومن الأرمينيات أيضاً عازفة البيانو إسترا مصرليان التي تلقت دراستها الموسيقية الأولية في القاهرة على أيدي نيفارت داماديان وإجناتس تيجرمان البولندي، ثم أكملت دراستها في كونسرفتوار باريس بين عامي 1947 و1951. وفي العالم التالي قدمت أولى حفلاتها في مصر ثم إثيوبيا، وتوالت حفالاتها بين عامي 1954 و1957 في القاهرة والإسكندرية وبيروت وإسطنبول وأنقرة وأديس أبابا وجنيف ولوزان. وهي الحفلات التي أثبتت فيها فهمها الموسيقي العميق، ومدى تأثير دراستها في كونسرفتوار باريس، وشخصيتها الأدائية المتميزة، وأداءها الواعي لأعمال شوبان بشكل خاص، وقد تميز برنامجها أيضا بأنه يضم أعمالا لمؤلفين موسيقيين أرمن مع أقرانهم الأوروبيين والروس. ومن الأرمن أيضا عازف البيانو أوجين بابازيان الذي درس البيانو في معهد الموسيقى في الإسكندرية إضافة إلى شهرته كقائد كورال.
اهتم المهاجرون الأرمن بالموسيقى، وكثير من أطفالهم تعلموا البيانو وآلات موسيقية أخرى عديدة، كما تميزت الحياة الموسيقية الأرمينية المصرية بإحياء ذكرى الموسيقيين العالميين المشهورين والاحتفاء بهم. وقد جرى ذلك التقليد إبان أربعينيات القرن العشرين، حيث كان هذا النوع من الاحتفالات ينقسم إلى قسمين رئيسين؛ أولهما تقديم محاضرة عن حياة الموسيقي المحتفي به وسماته الفنية وأسلوبه في الكتابة، وثانيهما عزف أشهر مقطوعاته الموسيقية، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فقد نظم النادي الفني الأرمني عدة أيام احتفالا بكل من شوبان ومندلسون وبيتهوفن؛ إلا أنه قد تبين أن شوبان قد حظي بأكثر من احتفال في النادي الفني الأرمني، كما احتفل نادي جوجيان في 22 يونيه 1949 بالذكرى المئوية لرحيل فريدريك شوبان، وكان احتفالا كبيرا يليق بمكانة شوبان التاريخية.
للمزيد