لم يكن وصف يهودي له نفس الوقع علي كالذي استشعرته وأنت تقرأ هذا العنوان. فقد عاش الأجانب في مصر من دون أن يكون لديانتهم ما يستوجب الحذر، وظل الأمر هكذا كما تعلم حتى تم طرد عائلات يهودية كاملة من مصر. ومن حسن الطالع أن هذا الرجل (تيجرمان) كان أحد اليهود القلائل الذين استثنتهم الحكومة المصرية وسمحت لهم بالبقاء في مصر بعد العدوان الثلاثي الإنجيلزي الفرنسي الإسرائيلي الغاشم على مصر عام 1956. وفي عام 1968 مات تيجرمان وهو في عمر 75 عاماً، ودفن في مدافن اليهود في ضاحية المعادي بالقاهرة.
عموما تعالى إلى شارع شامبليون في ثلاثينيات القرن الماضى حتى الستينيات منه، فهنا في قلب القاهرة بالقرب من المتحف المصري العريق، في شارع شامبليون المتفرع من ميدان التحرير الشهير، ومن داخل المنزل رقم 5 العتيق؛ كانت تنبعث دائما ويوميا موسيقى شوبان من يبن أنامل التلميذات والتلاميذ والمعلمين من داخل المعهد الصغير الذي كان يحمل اسم صاحبه “تيجرمان”. وهو عازف ومعلم بولندي يهودي الأصل، فلم تكن هناك آنذاك ضوضاء في الطرقات تمنع وصول الموسيقى إلى الآذان، كما كان من الممكن الاستماع إلى الموسيقى نفسها من خلال أسطوانات الفونوغراف أو الجرامافون داخل كبائن الاستماع المعدة لذلك في المكتبة الموسيقية التي كان يطلق عليها “مكتبة الفن” في المنزل رقم 7 المجاور مباشرة.
هكذا يدخل بنا د. فوزي الشامي إلى عالم البيانو في مصر من خلال كتابه الممتع (شوبان على ضفاف النيل). فهو يؤرخ لتاريخ موسيقى شوبان في القاهرة من خلال أشهر مُعلم بيانو تتلمذ على يديه عدد كبير من العازفين المصريين والأجانب المقيمين بالقاهرة.
ففي عام 1931 جاء تيجرمان إلى مصر قادما من بولندا، وكان وقتها في سن الثامنة والثلاثين، وفي عام 1960 كتبت الصحفية المصرية ليلى الهجين في جريدة الساعة في حوار صحفي مع تيجرمان أنه جاء إلى مصر واختار مدينة حلوان جنوب القاهرة ليقيم فيها. وكان ذلك لأسباب صحية، فقد كان يعاني من الربو وكان يتوجب عليه أن يعيش في جو جاف، فلم يكن هناك بالفعل أفضل من جو حلوان الجاف النقي. وهي قريبة من القاهرة، فقد كانت آنذاك منتجعا صحيا، وتشتهر بالمياه الكبريتية الطبيعية الشافية، وبمناخها المعتدل. ومن المصادفات أن أقام في شهر مارس من العام التالي 1932 في مدينة حلوان أيضا، ولنفس الأسباب الصحية الرئيس البولندي الأسبق يوزيف بيوسودسكي (1867 – 1935)، وهو أول رئيس للجمهورية البولندية الثانية التي استمرت من عام 1918 إلى عام 1939، وحكم بولندا في الفترة من 1918 إلى 1922.
وفي حلوان أقام في فيلا جولا التي كان يمتلكها بوهدان ريتشر، الخبير في أمور الشرق الأقصى. وكان بيوسودسكي يقرأ الصحف المصرية باللغتين الإنجليزية والفرنسية، وزار الأهرامات ومنطقة الفيوم ذات الطبيعة الخلابة، كما استضافه الملك فؤاد وأقام له مأدبة عشاء فاخرة بعد أسبوعين من وصوله ..
أسس تيجرمان معهدا للموسيقى في وسط مدينة القاهرة بشارع شامبليون، الذي كان يطلق عيله من قبل شارع وابور المياه. كان المنزل يجاور قصر الخديوي سعيد حلمي حفيد محمد علي باشا الذي حكم مصر. وفي هذا المنزل نفسه كانت هناك مدرسة موسيقية صغيرة اسمها بيلجرين، وهو اسم صاحبها الألماني من أصل يهودي، ولظروف خاصة اضطر صاحبها إلى بيعها إلى إجناتس تيجرمان الذي اسس معهده في نفس المكان بدلا من هذه المدرسة. ومنذ هذا الوقت في عام 1931 تغير اسم المدرسة ليصبح باسم تيجرمان. وقد ذكر في حواره مع صحيفة الساعة أن الشعب المصري طيب وموهوب موسيقيا، وقد أعجبه هذا وأعطاه الشجاعة للبقاء في هذا البلد وإنشاء معهده.
ولا يكتفي المؤلف بتتبع تاريخ تيجرمان في القاهرة، لكنه يقدم معلومات دقيقة عنه وعن تلاميذه المصريين.