لم تستطع قبضة الفقهاء الوصول إلى حناجر الفقراء الباحثين عن الله بقلوبهم وغنائهم ومديحهم آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،تقول الدكتورة عبد العظيم إن المدائح التى ينتظرها الفلاحون فى مواسم الحصاد ليست سوى معزوفات موسيقية لم يجرؤ أحد على تحريمها إلا بعض العامة المتشددين، فلم يكن لأحد أن يمنع هذا الوجد الربانى أو يقوم بتحريمه، ويختلف آداء المدّاح الشعبى الذى يستلهم القصص الدينية، عن مؤدى المدائح النبوية التى تعد لوناً من الشعر وأشهرها بردة البوصيرى.
للمداحين فى القرى، مواسم ينتظرها أهل القرية ويحتشدون لها، وهى مواسم الحصاد والمولد حيث ينتقلون بمواكبهم في حارات القرية من درب إلى درب مترنمين بأغانيهم على نقرات المزاهر والدفوف، فلا تشرق الشمس على قرية إلا وصوت المداح يجلجل في كل مكان.
والمداحون لا يعتبرون أنفسهم شحاذين يطلبون العطاء بالاستجداء والتوصل،بل يعتبرون أنفسهم أصحاب صناعة شريفة وأهل مهمة دينية،يقدمون فيها إلى الناس العبر والمواعظ من سير الصالحين
وللمداحين في أدائهم طريقة لا يشاركهم فيها غيرهم ، وليس لها تشابه مع أى لون من ألوان الفنون الشعبية وهى أقرب ما تكون إلى طريقة الإنشاد والترتيل ، يعتمدون فيها على براعة التوقيع وحسن الأداء ، ولهم في ضبط الإيقاع على نقرات الدف براعة مشهودة مما تحرك الوجدان والمشاعر .
وقد ورث المداحون تراث القصاصين الذين شاع أمرهم في المجتمع الإسلامي، وبخاصة عقب استشهاد بعض آل البيت رضي الله عنهم ، فكانوا يقصدون المحافل والندوات لوعظ العباد بالقصص الدينية وسيرة أهل البيت .
أما القصص التي يتغنى بها المداحون فهي فيض من البيئة الإسلامية في دمشق وبغداد والقاهرة وغيرها من العواصم العربية الزاهرة ، يوم كانت تفيض على العالم بألوان الثقافات المختلفة وطرائف القصص المتنوعة .
وتعتبر طرائقهم في نظم هذه القصص فريدة في نوعها، وفنا من فنون القصص قائما بذاته وأنها لتدل على حاسة فنية دقيقة عند أولئك المداحين الذين أقروا هذه الطريقة وابتدعوها ، ذلك أنهم وضعوا الأوزان الشعبية التى تنسجم مع الترتيل والتقسيم في الأداء والتي تسير طيعة لينة في التطريب بالنغم .
ومن أشهر القصص التي يتغنى بها هؤلاء المداحون ويقدمونها إلى الناس في ريف مصر وفي الموالد التى تقام للأولياء هى:
*قصة بلاء أيوب
*قصة إبراهيم وسارة
*قصة الجمل والغزالة
*قصص الأقطاب والأولياء .

فمبلغ العلم فيه أنه بشر
المدائح النبوية فن من فنون الشعر، التي أذاعها التصوف، في لون من التعبير عن العواطف الدينية، وباب من الأدب الرفيع، لأنها لا تصدر إلا عن قلب مفعمة بالصدق والأخلاق، وأكثر المدائح النبوية قيلت بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وما يقال بعد الوفاة يسمى رثاء، ولكنه في الرسول يسمى مدحاً، كأنهم لحظوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم موصول للحياة، وأنهم يخاطبونه كما يخاطبون الأحياء، فهو فن نشأ في البيئة الصوفية ، ولم يتهم به من غير المتصوفة إلا القليل، غير أنه مع ذلك جدير بالبحث وبالدراسة، لأن فيه بدائع من القصائد والمقطوعات، ولأن لأصحابه غايات دينية وأدبية جديرة بأن تدرس .
ومن أروع ما كتب في المدائح النبوية “بردة البوصيري” التي تعد مصدر الوحي لكثير من القصائد التي أنشدت بعد البوصيري في مدح الرسول وما أشد روعة مطلع هذه القصيدة في قوله:
أمن تذكر جيران بذي سليم
مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
ويتدرج البوصيري في سموه الوجداني حتى يقول في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
فمبلغ العلم فيه أنه بشر
وأنه خير خلق الله كلهم
ثم تحدث عن الإسراء والمعراج بأبيات خفيفة الروح بقوله:
سريت من حرم ليلا إلى حرم
كما سرى البدر في داج من الظلم
وبت ترقى إلى أن نلت منزلة
من قاب قوسين لم تدرك ولم ترم
وقد ظهرت نغمات التصوف ظهورا قويا في الجزء الأخير من البردة، وهو التوسل بالرسول فتبلغ الذروة في قوله:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به
سواك عند حلول الحادث العمم
ولا زالت بردة البوصيري أداة رفيعة يصل بها المنشدون والمرتلون والسامعون إلى ذروة الإحساس والحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما جعل البوصيري إماماً في فن المديح النبوي يقتفي أثره المنشدون والشعراء، ويكفينا دليل على هذا، ما كتبه أحمد شوقي في قصيدة “نهج البردة” التى مطلعها:
ريم على القاع بين البان والعلم
أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
ولقد لحن الموسيقار رياض السنباطي هذه البردة ، في لحن موسيقي رائع يبعث الخشوع في النفوس.