حتى بعدما أجهزوا علىّ
ظل دمى حبيس جسدى
وعبثا حاولوا
أن يلطخوا أكفّهم
ويحتفلوا
لو كانت الأرض تعرف العدل لأصبح هذا شاعرها المصرى الأول بلا منازع ، يفيض محمد صالح كنهر متدفق حتى تظن أن كل الأشعار التى كتبت بعده ملطوشة بموجة حانية من روح قصائده،ولو كانت القاهرة تحتفى بشعرائها مثلما تحتفى بمسوخ الشعر لأصبح هذا نوّارتها الخضراء المضيئة ، منذ عرفت الطريق إلى محمد صالح وديوانه ينام فى حضنى كطفل صغير،اكتشاف متأخر بسبب جهل كبير أعاذك الله منه ، أصبح يتيما بلا تلميذ يضىء شمعة فى عيد الميلاد أو مريد يترحم على القصيدة وصاحبها الطيب، كل الذين ضربتهم موجة محمد صالح بحنانها وجنونها وإلهامها استكثروا عليه كحكة فى العيد أو قبلة فى احتفالاتهم الصاخبة
كل الذين كتبوا القصائد ومروا من هنا ، كان لهم على الأرض أبناء وتلاميذ ورعايا ومحبين ومريدين وعشاق ، حتى أولئك الذين كانت قصائدهم رديئة ولا نحفظ منها كلمة ، كلهم .. إلا محمد صالح عاش غريبا ومات يتيما !، كنت فى حديث مع أصدقاء شعراء يدينون بالعرفان لشاعر آخر ورأيت الحماس الذى يتحدثون به عن شاعرهم الضعيف المتفجر باللغة قبل أن يكتب ، وتعجبت من الدنيا التى بخلت على محمد صالح بولد صالج يقرأ له ليل نهار ويرسم قصائده على الكشاكيل والكراسات ،هل سمعتم عن شاعر جعلوه يتيما وبلا ذكرى ؟!، هذا هو محمد صالح !! دماء قصيدته يسرى فى دواوين شعراء جاءوا معه وبعده ، يسكن رؤاهم للقصيدة ولون الحوائط التى يكتبون عنها ، لكنهم يحبونه ميتا ليقولوا (كان منّا) ،كل الذين عرفوه أحبوه ،لكنهم لم يقدروا قصيدته كما ينبغى لجلالها ورقتها ومكانها المناسب ، كل الذين نهبوه علنا وسرا وجهرا وآناء الليل وأطراف النهار .. أنكروه حتى لا يفضح وجودهم الخادع .. محمد صالح الذى تكاد تسمع أنفاسه وهو يكتب القصيدة ، محمد صالح النحيف برهافة ربانية تظل من عينيه وحاجبيه وشعره الفضى ، مازال سيد القصيدة وسيبقى هكذا مع شعراء آخرين بالطبع يميل البعض إليهم ونميل معهم ، لكننى كفقير بائس لا يملك حتى منح شاعره قبلة باكية .. سأمنح محمد صالح لقبه الجدير به ( اليتيم الذى تبكى عليه قصائده) كما فى رائعته :
الأضحية :
حتى بعدما أجهزوا علىّ
ظل دمى حبيس جسدى
وعبثا حاولوا
أن يلطخوا أكفّهم
ويحتفلوا
لست ناقدا ولا بتاع شعر أصلا ،لذلك فشلت فى الكتابة عن تلك القصائد التى أحبها ، ولذلك أيضا سأتركك مع مقاطع من قصائد محمد صالح ربما تمنحه لقبا ،أوابتسامة،أوحتى سلام.
المراة والطاوس 1988 لحامد ندا
غيبوبة
كمال فى غيبوبة
عشرة أيام
وهو لا يتعرف علينا
إنه حتى لا يشعر بوجودنا
فقط يستلقى هناك
أنبوب الجهاز فى فمه
ويتنفس
واليوم
هو اليوم السابق
بدون صحف
بدون أصدقاء
من نكون إذن
نحن الذين نصطف
مثل غربان سود
بانتظار أن يسمحوا لنا برؤيته! .
السلم
هذه السيدة
لا تتصور نفسها وحيدة بدونه
تموت رعبا
لأنه يهمل فى صحته
ويسرف فى التدخين
وتلاحقه بوصاياها
حتى يختفى فى بئر السلم
ثم تجرى إلى الشرفة
قبل أن يستدير هو حول البناية
لتراه فى الشارع
من ظهره هذه المرة
يبدو ذاهلا
وأكثر نحولا
وعندما يميل
وتلتقى عيناهما
يرى دموعها هناك
فى مكانها
على قوس الخد.
فرائس
ما الذى يتغير فينا
ويحبسنا
ويغل الفؤاد
ماالذى حين نكبر يطفئنا
ويذرى الرماد
ما الذى يترصدنا
لنعيش فرائس مذعورة
تتراكض فى خبل
وتخور.
من مقامات الرؤية والسماع
إذا زرت المقابر
وأقرأت الميتين السلام
ردوا عليك
وعرفوك .
أفتحُ المصحف
أتلو سورة النور على أمى
السماء فوقى صباح
طالع من غسق الخلق
وشمس قبس من رحمة الله
وأمى سقى الله لياليها
لم تترك من التذكار
حتى صورةً
تزكو بها نارى
وتصفو دمعتى
حتى أرى ما بعد فراقها
وأبى
كان قد اصطفى أمى على أترابها
وسقى أيامها يرحمه الله
وقضى يومه يعشقها
حتى إذا مات قضت
وانطبق القلب على الحزن .
هكذا
كانت تطالبه بأن يكون قدوة
ولو فى حضور الأطفال
وكلّ مرة
كانت تهدد بأنها ستترك البيت
عند ئذ كان يتراجع
وهو يتخيل ما يمكن أن تكون عليه الحال
فى غيابها
هكذا تعلم أن يخفى أشياءه
وبدأ يكذب .
العام السادس
فى الليل تحط خفافيش الأحزان على شباكى
تشرب من كأسى
تقتات عشائى
تضحك حين أردد أشعار الحب
لكننى لما أبكى
تلعق دمعى
وتمسح خدى
مساء جميل
ما دهاها السماء؟
إنها تتشكل هذا المساء كقنينة
أُفرغت
وبقايا الشراب على جوفها
وغابة من تهاويل.
هذا مساء جميل
يعود بنا لسنين انقضت
ويمتعنا
أيهذا المساء الجميل استرح فى فؤادى
ودع زفرة ىتتصعد
كُن والدىّ اللذين فقدتهما
وفقدت الطفولة
وأنس إلىّ
استرح فى فؤادى
وكن لى كأم
ينارعها قلبها أن الغريب المشرد ..
من لحمها ..
أنها أرضعته
وأن الصغير .. الذى آب
أضحى كبيرا
له حزنه ومراثيه
يجلس جنبها مطرقا
لا ينام على صدرها ،فيريح،
ويرتاح
هذا مساء جميل
يمتعنا
ويعود بنا لسنين انقضت
وعوالم لك يطأ الناس.